المنتحرون في المعتقلات السياسية ... إغتيال أم انتحار؟؟

ربما سهل علينا أن نفهم أو نقتنع أن مسجونا أو معتقلا جنائيا قد أدت به الضغوط النفسية التي طوقت رقبته في السجن إلى الانتحار سواء كانت هذه الضغوط مصدرها إدارة السجن أم زملائه في الزنزانة أم أسرته خارج السجن لأن الصورة الغالبة عندنا عن السجين أو المعتقل الجنائي أنه شخص ضعيف الإيمان و ضعيف الخلق مما دفعه لإرتكاب جرائمه أصلا التي أودت به للسجن, بغض النظر عن صحة هذه النظرة و ذلك التعميم أم لا, كما أن إمكانية أن يموت السجين الجنائي تحت تأثير المخدرات أهم وارد و ممكن تصديقه.أما السجين و المعتقل السياسي فإن معظم هذه الأمور تنتفي في حقه من عدة نواحي, فالسجين و المعتقل السياسي عادة ما يكون على درجة لا بأس بها من الوعي و الثقافة و الصلابة يجعل من لجوءه للإنتحار كوسيلة وحيدة للخروج من أزمته أو للهروب من ضغوط التعذيب أو سوء المعاملة في السجن, كما أن أكثر المعتقلين و السجناء السياسيين في العشرين سنة الأخيرة من الاسلاميين و من ثم فهم إيمانا راسخا بأن الانتحار هو من أكبر الكبائر, و يمثل وجود جيش من المحاميين و منظمات حقوق الانسان المهتمين بالمعتقلين السياسيين و المدافعين عنهم عاملا هاما أيضا لأنه يمثل ملجأ يلجأ إليه المعتقلون و السجناء السياسيون في حالة تعرضهم للتعذيب أو سوء المعاملة أو الحاجة لطلب اي مساعدة, و انطللاقا من ذلك كله تأتي صعوبة أن نصدق بأن معتقلا أو مسجونا سياسيا قد انتحر في سجنه.و تعتبر حالة الخصومة الواقعة بين المعتقل أو المسجون السياسي و بين الأجهزة الأمنية دافعا بارزا لعدم القبول بفكرة انتحاره و الميل لفكرة إغتياله لأسباب سياسية و ذلك لأن هذه الأجهزة التي تشرف على السجن هي رمز للحكومة التي عارضها هذا السياسي المعتقل و من ثم اعتقل بسبب هذه المعارضة.و الشائع أنه في عهد الرئيس جمال عبد الناصر لم يعلن عن منتحرين سياسيين في السجون رغم كثرة المعتقليين و المسجونيين السياسيين في عصره, و لكن الذي شاع أنه كان يجري قتل معتقلي الاخوان المسلمين و الشيوعيين تحت التعذيب في السجون ثم يتم دفنهم في الصحراء و يدون في الأوراق أنه هرب من السجن, و في عهد الرئيس السادات لم يتعرض المعتقلون لما تعرض له نظرائهم أيام جمال عبد الناصر بسبب اختلاف المرحلة و رفع لاسادات لشعار سيادة القانون و قفله للمعتقلات, و لاذين اعتقلوا ايام السادات و تعرضوا للتعذيب لم يصل بهم التعذيب لدرجة الموت و بالتالي فلا يذكر أحد أنه تم الابلاغ عن حالات انتحار أو اختفاء لأحد من المعتقلين السياسيين في عصره.ثم يأتي عصر الرئيس مبارك بتولي مبارك الحكم و قد بطش السادات بالمعارضة من كل الأطياف السياسية و الدينية قبل إغتياله بشهر بل وتم إغتيال السادات على يد مجموعة من أعضاء تنظيم مسلح معارض "الجهاد" و من ثم ضخت الأجهزة الأمنية مزيدا من المعتقلين السياسيين في السجون و دارت عجلة التعذيب.و أشهر و أول من ذكر انتحاره في ذلك الوقت (ثاني شهر من حكم الرئيس مبارك) هو كمال السنانيري القيادي البارز في جماعة الاخوان المسلمين و الذي تم اعتقاله مع غيره من المعارضين بقرار الرئيس "السادات" (في 5 سبتمبر1981م) وتعرّض "السنانيري" في أثناء اعتقاله لتعذيب رهيب؛ أملاً في معرفة معلومات عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، و كان قد تجاوز الستين من عمره، لكن ادارة السجن أبلغت مكتب النيابة الامة بالمعادي أنه وجد في زنزانته مشنوقا في فوطة علقها الفقيد في أسفل حوض الطنبور الموجود في الزنزانة صباح 8 نوفمبر1981م، و رفضت أسرة السنانيري و جماعة الاخوان المسلمين الرواية الأمنية للحدث و قالوا كيف ينتحر رجل مؤمن كالسنانيري؟ و كيف صبر في سجون جمال عبدالناصر على أهوال التعذيب و سوء المعاملة عشرين عاما ثم يأتي اليوم لينتحر بعد اعتقاله بشهرين فقط؟ و لازالت قضية مقتل كمال السنانير تثير الجدل كلما ذكرت, فبينما تعبرها الأجهزة الأمنية مجرد عملية انتحار قام بها معتقل سياسي, تعتبرها أسرة كمال السنانيري و جماعة الاخوان المسلمين عملية إغتيال سياسي.و ربما كان كمال السنانيري أوفر حظا بعد موته إذ تقف وراء قضيته أسرة واعية و جماعة قوية هي جماعة الاخوان المسلمين بآلتها الاعلامية الضخمة التي تذكر الرأي العام من حين لآخر بقضيته, و هناك العشرات غيره من المسجونين و المعتقلين السياسيين ممن ذكرت الأجهزة الأمنية في أوقات مختلفة أنهم انتحروا في سجنهم منهم من هيأت الظروف لكي تتداول قصة انتحاره وسائل الاعلام منهم من لم تتح لقصته فرصة التداول الاعلامي الكافي فاقتصر الأمر على خبر من خمسة سطور في صحيفة قومية بصفحة الحوادث.فممن ساهمت ظروف قضيته أن تهتم بموته في السجن منتحرا كان أم مغتالا سليمان خاطر جندي الأمن المركزي الشرقاوي الذي وجد صريعا في زنزنزانته بالسجن الحربي بعدما كان أدين بقتل سبعة من الاسرائيليين في سيناء بسلاحه الميري في منتصف الثمانينات من القرن الماضي, و كالعادة كانت الرواية الرسمية أنه انتحر بينما رفضت أسرته و العديد من وسائل الاعلام هذه الرواية, و تسائلت أسرته عن سبب طلبه لكتبه الدراسية قبل موته بيوم فلو كان سليمان خاطر شخص يميل للانتحار فلماذا طلب كتبه الدراسية و طلب من أهله قبل مصرعه بيوم عمل الاجراءات الرسمية اللازمة كي يلتحق بالإمتحان هذا العام؟كل هذه كانت تساؤلات أسرته و شكوكهم التي روجتها وسائل صحف المعارضة في ذلك الحين, و قد اندلعت مظاهرات طلابية عارمة في ذلك الحين احتجاجا على رواية انتحاره و خاصة في جامعة الزقايق حيث كان سليمان خاطر منتسبا لها, و مرة أخرى ظل الوضع كما هو عليه دفن سليمان خاطر في حراسات أمنية مشددة و لم تقبل اسرته رواية الحكومة و لم تتنازل الحكومة عن روايتها بأنه مجرد انتحار عادي لسجين سياسي في سجنه.و من الحوادث الأخيرة و المشهورة حول مقتل مساجين أو معتقلين سياسيين في السجن و اعتبار إدارة السجن أنهم انتحروا مصرع أيمن اسماعيل و الذي كان متهما في قضية الدكتور أيمن نور الشهيرة, و قد استمد مصرع أيمن اسماعيل شهرته من شهرة قضية و مكانة الدكتور أيمن نور و حساسية قضيته التي يعتبرها الكثيرون صراعا سياسيا بين أيمن نور و جمال مبارك شخصيا على انتخابات الرئاسة القادمة عام 2011م. أما العديدون الذين لقوا حتفهم في السجن و لم يحظوا سوى بخمسة سطور في صفحة الحوادث في إحدى الصحف فهم كثيرون و يصعب إحصائهم أو قل إن شئت الدقة فإن إحصائهم من السهل الممتنع.... لماذا هو من السهل الممتنع؟هو من السهل لأن كل ما يحدث في السجون أو أماكن الاحتجاز يتم تقييده في دفاتر و سجلات رسمية, كما أنه عندما يموت أي معتقل أو مسجون في مكان ما فإن إدارة السجن تقوم بإبلاغ مكتب النيابة العامة التابع لها السجن و تقوم بعد ذلك النيابة بمعاينة الجثة و التحقيق بشأن وفاته مع كل من مأمور السجن و نائبه و رئيس مباحث السجن و قائد العنبر الذي توفى فيه السجين و زملائه في الزنزانةالتي توفى بها (حسبما تحددهم ادارة السجن) و طبيب السجن, كما يقوم الطبيب الشرعي بكتابة تقرير طبي بشأن الوفاة في حالة وجود شبهة جنائية حول موته, و تظل كل هذه الوراق محفوظة في النيابة لأجل غير مسمى, لكن من الصعب أن نتتبع هنا كل هذه الأوراق لنعلن اسماء العشرات الذين توفوا في السجن و قيل أنهم انتحروا أو ماتوا بسبب الأمراض بينما اعتبرتهم أسرهم أنهم تم اغتيالهم في السجن لأسباب سياسية, نعم ممكن أن تقوم منظمة حقوقية بتيني مشروع كبير لتتبع هذه الأوراق و توثيق مثل هذه الحالات, و لكن هذا لم يحدث حتى الآن.لكن هناك العيد من الأسماء التي يمكن أن نذكرها هنا على إعتبار أنها أمثلة على حالات الإنتحار أو الإغتيال التي تمت لمعتقلين سياسيين فمن أوائل هؤلاء محمد البلتاجي الذي كان مخرجا إذاعيا و تم اتهامه في قضية تنظيم الجهاد الكبرى إثر إغتيال الرئيس السادات عام 1981م و لكن المحكمة برأته في نهاية عام 1984م و بعد الافراج عنه بشهور قليلة تم اعتقاله ووجد صريعا في زنزانته الانفرادية بسجن استقبال طرة و قالت إدارة السجن انه انتحر عبر صعق نفسه بالكهرباء, بينما رفض عبود الزمر في تصريح صحفي له الرواية الأمنية و اتهمهم بقتله و كان البلتاجي من أصدقاء الزمر في السجن.و بعد افتتاح سجن الواحات الجديد (الوادي الجديد) بشهر واحد (افتتح للسياسيين في فبراير 1995م) لقي ستة معتقلين مصرعهم في عنبر التأديب بالسجن و كان أحدهم المعتقل الاسلامي عادل طه الذي قيل أن أحد ضباط السجن (م.ع) كان قد توعده قبيل نقله لسجن الواحات بيوم و تراوحت روايات السجن بشأن هؤلاء الستة و غيرهم ممن لقوا حتفهم بسجن الواحات و غيره من السجون الجديدة التي بنيت كلها في الصحراء بين الانتحار او الموت بأمراض, و لم تكن أجواء الأعمال المسلحة للجماعة الاسلامية و تنظيم الجهاد وقتها ضد رموز الحكم و السياح تسمح لأحد بأن يتظاهر أو يتسائل كما حدث أيام سليمان خاطر لكن تمت عدة إجراءات تشير لعدم رضى جانب من الأجهزة الأمنية نفسها عن ما حدث إذ أمرت نيابة الواحات بغلق عنبر التأديب بالسجن و حتى عندما أعيد إفتتاحه بعد عدة شهور لم تسمح إدارة السجن بوضع السياسين فيه و ظلت على هذا الحال لأكثر من عام , و من ناحية أخرى قامت غلإدارة العامة للسجون بنقل مدير منطقة السجون التابع لها السجن و كان برتبة لواء و وضعت مكانه لواء جديد.و في عام 2005م أعلنت أجهزة الأمن أن أشرف سعيد قد انتحر في زنزانته بضرب رأسه في جدران الزنزانة حتى توفى و كان أشرف سعيد قد إعتقل على خلفية علاقته بمن قاموا بتفجير الأزهر و عبد المنعم رياض في نفس العام,و لم يقبل زملاء أشرف في السجن رواية إدارة السجن كما لم تتراجع إدارة السجن عن تأكيدها بأنه إنتحر كأي منتحر.و هكذا تظل روايات انتحار المعتقلين و المسجونين السياسيين في السجن معلقة بين رواية رسمية تؤكد الانتحار و رواية غير رسمية تتهم إدارة السجن بإغتيال المسجون أو المعتقل السياسي, و تظل هذه القضية مظلومة ليس بسبب الخلاف حولها و عدم القطع فيها برأي يستريح له الرأي العام و التاريخ بل أيضا بسبب أن أيا من منظمات حقوق الانسان الذين تعج بهم البلاد لم تسع لتوثيق هذه الحالات و بحثها و إعلان نتائج موضوعية بشأنها.
عبدالمنعم منيب
نشر هذا الموضوع في العدد الأسبوعي من جريدة الدستور 18 مارس 2009.
و في المدونة القديمة 2009-03-19 17:32


مواضيع متعلقة:


تعليقات