أثار مصرع النقيب في جهاز الاستخبارات الأردني شريف علي بن زيد، جنباً إلى جنب مع سبعة من كِـبار ضبّـاط وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي. أي. آي) في عملية انتحارية في أفغانستان مؤخراً، أسئلة عدّة كُـبرى في الأردن والشرق الأوسط العربي.
أبرز هذه الأسئلة: ماذا كان ضابط المخابرات هذا يفعل في دولة قصيّة كأفغانستان، ليس لأمن الأردن القومي علاقة مباشرة بها وبحروبها؟ ولماذا كان في مقرّ قيادة "سي.أي آي" في خوست على الحدود الأفغانية - الباكستانية؟ وهل صحيح ما قالته "واشنطن بوست" في 4 يناير الحالي من أن حادثة خوست كشفت النِّـقاب عن أن الأردن "بات حليفاً رئيسياً لـ "سي. أي. آي" في الحرب العالمية على الإرهاب".
انقِـلاب كبير
سنأتي إلى كل هذه الأسئلة بعد قليل، لكن قبل ذلك إشارة إلى أن مثل هذه التساؤلات تفقز فوق حقيقة خطيرة، وهي أن مسألة الأمن شهدت خلال العقود الثلاثة الأخيرة إنقلاباً شاملاً، تحوّلت بموجبه من مجرّد "أمن قومي" لكل دولة على حِـدة إلى أمن دولي أوعالمي تشكّل فيه كل القوى الأمنية والعسكرية في معظم الدول مجرّد حلقة من سلسلة واحدة. ومَـن يقف وراء هذه السلسلة ليس قوة إمبريالية جديدة أو قديمة، بل إمبراطورية من نوع جديد لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من قبل: إمبراطورية العولمة.
مع هذه الأمبراطورية، تحوّلت "سي. أي. آي" نفسها من مجرّد جهاز استخباري أمريكي إلى هيئة أركان شِـبه عسكرية تُـعلن الحروب وتخوضها وتعقد الصفقات وتدير شؤون دول وسطى وصغرى بأسرها، وهي تفعل ذلك، ليس بقرار من واشنطن، بل بتعليمات من هذه السلطة الإمبراطورية الجديدة، لكن، مَـن هي هذه السلطة وكيف تشكّلت؟
إنها العولمة الرأسمالية، أي عولمة الإنتاج وسوقه العالمية الواحدة، التي تديرها 500 شركة كبرى عِـملاقة متعدِّدة الجنسيات والتي باتت تجمع للمرة الأولى في تاريخ الرأسمالية بين السلطتين، الاقتصادية والسياسية، وتشكّـل منبَـعاً لتحديدات حقوقية تعكِـس صورة "فوق- قومية" للسلطة السياسية العالمية، وهي، على عكس الرأسمالية القديمة، لم تعُـد تكتفِ بفَـرض الأوامر المجرّدة أو تنظيم عمليات السرقة والنهب الاستعمارييْـن، بل هي تعكِـف على بناء وإعادة تنظيم كل بنى العالم، وتكاد تحوّل الدول القومية (بمَـن فيها الولايات المتحدة) إلى مجرّد مكاتب لتسجيل حركة تدفّـق السلع والرساميل والبشر، فيما هي تقوم بتوزيع قوة العمل على الأسواق المختلفة وتنظيم القطاعات المختلفة للإنتاج العالمي، تراتُـبياً أو هرمياً.
سلطة عالمية جديدة؟
هذا التطور هو ما يجعل العالم يمُـر اليوم في مرحلة انتقالية تاريخية كبرى: من الاعتماد على القانون الدولي التقليدي الذي كانت تحدِّده أشكال التعاقد والمعاهدات بين الدول – الأمم، إلى بناء سلطة سيادية عالمية تقوم على مفهوم إمبراطوري جديد للحقّ والقهر والإرغام.
ومثل هذا المفهوم، لا يعترف بالطبع بحدود الدول وسيادتها ويعتبر أن مِـن حقّ الامبراطورية الجديدة خلْـق قواعِـدها الأخلاقية الخاصة والاجهاز على الزمن التاريخي، أي تعليق التاريخ واعتقاله (نهاية التاريخ وِفق تعبير فوكوياما)، واعتبار نظامها سلطة دائمة وسرمدية وضرورية.
وفي هذا السياق، يعاد على عجل هذه الأيام تلميع صورة نظرية "الحرب العادلة" المسيحية - التوراتية القديمة، التي تنطوي على إضفاء الصفة الطبيعية على الحرب، كما على التهليل لها بصفتها أداة أخلاقية للتصدي لـ "البرابرة" الذين يتصدّون لسلطتها على أطراف الإمبراطورية.
وجنباً إلى جنب مع نظرية الحرب العادلة، تتِـم بلورة صيغة "الحق البوليسي"، التي تجعل من الأدوات الأمنية للعولمة (وعلى رأسها سي. أي. آي، وإف. بي. أي، وحلف شمال الأطلسي)، الهيئات الوحيدة المخوّلة احتكار العُـنف وممارسته في العالم.
يكتب هارت ونيغري: "الحق البوليسي يعني حق وواجب الكيانات (إقرأ الشركات) المُسيطرة في النظام العالمي في التدخّـل في أقاليم كِـيانات أخرى، للحيلولة دُون حصول مشكلات إنسانية أو لضمان تنفيذ الاتفاقات أو لفرض السِّـلم. لقد باتت المؤسسات فوق - القومية تتدخّـل الآن، ليس انطلاقاً من الحق وحده، بل أيضاً استناداً إلى الإجماع الذي يضفي الشرعية على هذا الحق البوليسي باسم القِـيَم الكونية الشاملة".
ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني بوضوح، أن كل التدخلات والحروب العسكرية التي تمّـت منذ نهاية الحرب الباردة (حربا الخليج ومعارك البلقان وأفغانستان وباكستان وصولاً الآن إلى احتمال نشوب حرب إيران)، حدثت بقرار مباشر من السلطة العالمية الجديدة، بهدف إزالة مَـن تبقى من عوائق أمام بروز قريتها الاقتصادية الموحّدة، ولم تكُـن فيها القوات الأمنية والعسكرية الأمريكية أكثر من أداة تنفيذية، ليس بقرار يصدر من بوش وأوباما، بل من بيل غيتس وروتشيلد.
شبكة واحدة
نعود الآن إلى أسئلتنا الأولية: ما دور الأردن في كل هذه التحوّلات العالمية؟
بداية، ينبغي التذكير بأنه كان ثمّـة علاقات تاريخية بين أجهزة الأمن الأردنية والأمريكية، وهي علاقات تعزّزت إلى حدٍّ بعيد غَـداة أحداث 11 سبتمبر 2001. ويقول هنا جيمي سميث، وهو ضابط سابق في سي. أي. آي، سبق له أن عمل على الحدود الأفغانية: "إن الأردنيين يعرفون أكثر من غيرهم الناس الأشرار وطبيعة ثقافتهم ومعارفهم والشبكة التي ينتمون إليها. كما أنهم ماهرون في كل من نشاطات التحقيقات وزرع المخبرين، بسبب خِـبرتهم الطويلة التي لا تنازع مع المجموعات الراديكالية العنيفة والثقافة السُـنيّة - الشيعية".
ويقول مسؤولون أمنيون آخرون، إن العلاقات الأمنية الخاصة بين الأردن والولايات المتحدة تعود إلى ثلاثة عقود على الأقل، وقد تطوّرت كثيراً في الآونة الأخيرة. ومثل هذه العلاقة ساعدت على إفشال العديد من المؤامرات الإرهابية، بما في ذلك إحباط " المؤامرة الألفية"، التي كانت تشمل هجمات على فنادق ومواقع أخرى. كما زوّد الأردنيون، الأمريكيين باتصالات تمّ اعتراضها في صيف 2001 تشِـي بوجود خُـطط لشن هجوم كبير على الولايات المتحدة.
ويقول أردنيون ينتقدون هذه العلاقة، بأن هذا التعاون الوثيق يستنِـد إلى الحقيقة بأن الأردن يتلقّـى 500 مليون دولار سنوياً من الولايات المتحدة في شكل مساعدات اقتصادية وعسكرية، وبأنه الدولة العربية الثانية بعد مصر، التي تُـقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، لكن المسؤولين الأردنيين يردّون على ذلك بالقول، أن "التعاون مع سي. أي. آي دافعه الفهم المُـشترك للخطر الذي تفرضه القاعدة والتطرف الدِّيني على أمن الجميع".
هذا الردّ الأخير يتضمّـن نِـصف الحقيقة। أما النصف الثاني، فهو يكمُـن في الواقع بأن كُـلاً من دائرة الاستخبارات العامة الأردنية وسي. أي. آي باتتا معاً جزءً من هيكلية أمنية واحدة تقودها (كما أسلفنا) سلطة عالمية جديدة واحدة، تعمل هذه الأيام على إعادة صوغ النظام العالمي الجديد على أسُـس أمنية واقتصادية وثقافية جديدة، وهذه الهيكلية لا تتضمّـن هذين الجهازيْـن وحسب، بل كل/أو مُـعظم الأجهزة الأمنية في الشرق الأوسط العربي والعالم. إنها إمبراطورية العولمة الجديدة وهي قيْـد العمل.
(نقلا عن سويس انفو)
مواضيع متعلقة:
تعليقات
إرسال تعليق