في آفاق التفكير الاستراتيجي و السياسي الاسلامي

يعتبر التفكير الاستراتيجي من أصعب أنواع التفكير ليس لكثرة قوانينه و قواعده و
تشعبها و تشابكها مع العديد من العلوم الاجتماعية الأخرى و لكن بسبب أنه يحتاج قدرة كبيرة على التخيل الواقعي لمدى زمني و جغرافي كبير بجانب استلهامه دروس التاريخ على مدى زمني كبير يشمل كل الزمن و على مدى جغرافي كبير يشمل كل العالم.و السياسة و فكرها تلي التفكير الاستراتيجي في الصعوبة فهي رغم صعوبتها تمثل درجة أقل قليلا من التفكير الاستراتيجي, و هذا الفرق البسيط يتلاشى لأنه كثيرا ما تندمج السياسة بالاستراتيجية.

على كل حال فهذه كانت مقدمة لابد منها للدخول لموضوعنا الذي هو عدد من الأفكار هدفها الدفع للتأمل السياسي والاستراتيجي من منطلق المعايير الفقهية المستقرة في مجال السياسة الشرعية, انها دعوة لاطلاق الفكر للتأمل في آفاق السياسة و الاستراتيجية الاسلامية باسلوب سهل يستفيد منه المتخصص و يدركه و يتفاعل معه غير المتخصص ان شاء الله.
و مما يسهل عملية التفكير الاستراتيجي أن يتخيل المتفكر ما هي أهدافه و تصوراته النهائية التي يريد أن يصل اليها, و في حالة الحركة الاسلامية بكافة فصائلها الحيوية فالهدف هو اعادة الخلافة على منهاج النبوة, و التصور النهائي هو دولة اسلامية واحدة تضم كافة الأراضي الاسلامية التي يمثل فيها المسلمون أغلبية الآن.
و هذا التصور سيفرض عليك تخيل شكل هذه الدولة, و الذي سنتعرض له في هذا المقال جانب من الشكل السياسي و ليس كل الجوانب السياسية و نقصد به البناء السكاني للدولة ان جاز التعبير.
و المتأمل للرقعة الاسلامية المرجو توحيدها تحت راية خلافة راشدة على منهاج النبوة يجد أنها تضم اجناسا و أعراقا شتى و اديانا شتى و مذاهب فقهية متعددة و عقائد متنوعة داخل الدين الواحد.
فمن حيث الأجناس و الأعراق سنجد تمثيل لمعظم الأجناس و الأعراق الاثنية المختلفة الموجودة في العالم, نعم سنجدها كلها موجودة و ممثلة في العالم الاسلامي (الدولة الاسلامية الواحدة), كما سنجد الأديان السماوية كاليهودية و النصرانية موجودة بنسب كبيرة من عدد السكان بجانب الأغلبية المسلمة, و سنجد الأديان غير السماوية كالمجوسية و الصابئة (و ان كان لبعض الفقهاء رأي بأنهم من أصول سماوية محرفة), كما سنجد الوثنيات المختلفة كما في جنوب السودان و في أجزاء اخرى من افريقيا و أسيا (عباد البقر و البوذية و التاوية و غيرها).
اما المسلمون فسنجد جميع مذاهبهم الفقهية كالشافعية و الأحناف و الحنابلة و المالكية و الظاهرية و غيرهم, كما سنجد جميع فرقهم العقيدية كالسنة و الشيعة و الخوارج و الصوفية و المعتزلة و الاشاعرة, سنجد هذه المذاهب و الفرق الاسلامية بكثرة و بنسب كبيرة جدا من عدد السكان.
و سنجد الكثيرين من المسلمين المخلصين الذين تلوثت عقولهم بأفكار غريبة عن الاسلام بسبب الغزو الفكري الغربي السابق.
فكيف تكون علاقة كل هذه الأعراق و الملل و النحل و المذاهب ببعضهم البعض من ناحية و بالدولة التي تحكمهم من ناحية أخرى(دولة الخلافة النبوية)؟؟
من يرد تصور هذا المشهد بطوله و عرضه و عمقه سيحتاج استدعاء الخبرة الاسلامية التاريخية حول ذلك في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عصر الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله عنهم أجمعين, كما أنه سيمر مرورا سريعا بقدر قليل من التريث على الخبرة الاسلامية في العصر الأموي و العصر العباسي الأول لكن مروره على هذين العصرين سيكون مرورا حذرا باستثناء عصر عمر بن عبدالعزيز الذي يشبه عصر الراشدين في التزامه بالأسس و المعايير الاسلامية.
و في هذا التأمل سنلاحظ التسامح الاسلامي مع التنوع الديني و العرقي و المذهبي في اطار من الحزم و الوحدة, و سيتأمل حرية الرأي و حرية الفكر و حرية التعبير الكبيرة, سيجد وحدة مقترنة بالتنوع و حزما مقترنا بالتسامح و حرية منضبطة بالثوابت الاسلامية.
و لسنا بصدد تفصيل هذا الآن و لكن نريد فقط ان نتحرك بأفكارنا في رحلة الى المستقبل يصحبها عبق الماضي التليد بامجاده الموضوعية العملية و ليست فقط أمجاده الوجدانية و الحماسية كي يمكننا أن نتغلب على الفكر القاصر الذي يبتعد كثيرا عن أدنى أبجديات التفكير الاستراتيجي و السياسي المنضبط بضوابط الشرع الاسلامي.
لابد في هذه الرحلة أو الزيارة الى المستقبل أن نتخيل متطلبات الدولة الاسلامية الناجحة من تجانس و تعايش اجتماعي و شعبي و من استقرار سياسي و اقتصادي و من تكاتف و تكافل اجتماعي و اقتصادي شامل ومن تقدم و تنمية و تطور مستمر في كافة المجالات.
و بعدما نتخيل كل هذا و نحدد معالمه الرئيسة لابد أن نعود إلى واقعنا المعاش و نرتب خططا و تصورات و مناهج و مواقف تنبني على مقتضيات التفكير المستقبلي الذي حددناه بزيارتنا للمستقبل بعقولنا على النحو المذكور آنفا, و مجموع هذا كله سيمثل البناء المتكامل لفكرنا السياسي و الاستراتيجي.
و عندما نتم ذلك كله في اطار من الضوابط و القواعد الفقهية, سنتمكن من الوصول الى مستوى ناضج من التفكير السياسي و الاستراتيجي الاسلامي, كما سنستطيع أن نرتقي بوجداننا الى مواكبة هذا النضج السياسي و الاستراتيجي مما يساهم في جعل اعمالنا في نفس مستوى تفكيرنا من النضج و العمق, لأنه أحيانا يكون تفكيرنا منضبطا شرعيا و استراتيجيا و لكن وجداننا و مشاعرنا تكون على حالة مختلفة, لذلك لابد من التوحد بين التفكير و الوجدان.
 و هذا المستوى من الفكر و الوجدان سيغير من طبيعة اعمالنا و أنشطتنا المعاصرة لأنه سيكون منطلقا جديدا من أرض جديدة عقليا و وجدانيا, ليست جديدة فقط في صلابتها و لكن أيضا جديدة في طبيعة و أنواع مكوناتها.
و اذا كنا فيما مضى من سطور قد بسطنا سبيلا للتفكير السياسي و الاستراتيجي, فان سؤالا يطرح نفسه بشكل طبيعي بعد كل هذا الكلام و هو:
كيف يتمكن المرء من ممارسة هذا النوع من التفكير أو بتعبير ادق ما هي الأدوات العلمية التي تساعد المرء على سلوك هذا المسلك من التفكير؟
أول هذه الأدوات هو فقه السياسة الشرعية فهو القاعدة الأساسية في ضبط التفكير بالمعايير الشرعية في السياسة و الاستراتيجية خاصة فيما يتعلق بالقواعد و الضوابط الفقهية في مجال السياسة و الاقتصاد و الاستراتيجية, و ينبغي الاهتمام بأصول الفقه لأنه منهج الفهم و الاستنباط لكل ما ذكرناه من موضوعات شرعية كما أن التركيز على باب مقاصد الشريعة امر هام جدا في مجال الاستفادة بعلم أصول الفقه كأداة من ادوات التفكير السياسي و الاستراتيجي.
 و يلزم الذي يبحث في السياسة و الاستراتيجية أن يلم الماما مناسبا بفهم صحيح لعلوم العقيدة و الملل و النحل, و التاريخ الاسلامي و التاريخ بعامة, بالاضافة لعلوم الاقتصاد السياسي والاجتماع و جانب من الجغرافيا البشرية.
هذا كله فضلا عن علمي السياسة و الاستراتيجة الذين هما لب تخصصه.
لكن هذا كله لا يشغلنا عن أمر هام و هو القدرة العالية على التخيل و التوقع من خلال الأطر العلمية المذكورة.
عبدالمنعم منيب
تم نشر هذا الموضوع في موقع لواء الشريعة و في المدونة القديمة 2008-12-14 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اقوم الآن بنقل هذه المدونة الى موقعي الجديد " الأمة اليوم " على الرابط التالي

http://moneep.alummah.today/

نقلت حتى الآن أغلب المحتوى الموجود هنا و مستمر في النقل حتى أنقل جميع المحتوى ان شاء الله تعالى .. و كل جديد سأكتبه سوف أنشره هناك و ليس هنا..


موضوعات متعلقة






تعليقات

  1. احسن الله اليك على هذا التبسيط لعلم مهم يشكل أولوية في عالم الضيابية الاستراتيجية والعقدية والمذهبية الذي يعيشه العالم الاسلامي اليوم.

    ردحذف

إرسال تعليق