عندما انفجرت قنبلة حديقة الحسين الأحد الماضي انفجر معها شلال من التحليلات الغريبة و المتناقضة, فكل المعلقين بما في ذلك المصادر الأمنية مجمعين على أنه لم يتم القبض على الجناة و على عدم معرفتهم, و مع ذلك كلهم مجمع على أن الجناة مجموعة صغيرة من ثلاثة إلى أربعة أفراد لا ينتمون للجماعة الاسلامية أو تنظيم الجهاد أو القاعدة , و أن العملية صغيرة و معزولة و أن العبوة التي انفجرت بدائية و ضعيفة و أن العملية بمجملها تنم عن بدائية و قلة خبرة المنفذين, و أن هذه العملية و أي عملية لمجموعات اسلامية مسلحة هي نتاج التضييق على نشاط الاسلاميين المعتدلين الذين هم الاخوان المسلمين و الجماعة اسلامية و حزب الوسط تحت التأسيس.و في الواقع أن كل هذه التحليلات بعيدة عن أي منهج علمي أو موضوعي, و لا تصمد أمام أي نظرة منطقية دقيقة للأحداث بل يمكن لأي شخص غير متخصص و ليس لديه معلومات أن يلاحظ تناقضها مع نفسها, لأنه إذا كان الجناة غير معروفين حتى اللحظة فمن أين عرفوا أنهم ثلاثة أو أربعة فقط و انهم غير منتمين للجماعات الثلاثة المشهورة (الجهاد و القاعدة و الاسلامية) , و إذا كان المعلن عن حجم الاصابات قتيلة و 24 مصابا ثلاثة منهم في حالة خطرة فكيف يقال أنها عملية صغيرة؟كم يكون عدد الاصابات حتى نعتبرها عملية كبيرة؟و إذا كانت العبوة أطاحت بالمقعد الرخامي التي كانت تحته و أطاحت بكل هؤلاء المصابين و حفرت في الأرض حفرة عميقة فكيف تكون العبوة الناسفة صغيرة أو ضعيفة؟و ما هي البدائية في العملية؟..... قالوا أن العبوة مصنوعة يدويا و أن أحدها تم تفكيكها قبل أن تنفجر و هذا دليل بدائيتها!!و السؤال الذي يطرح نفسه هو منذ متى و العبوات الناسفة تأتي جاهزة من مصنع؟ هل أي عبوة ناسفة استخدمت في أي عمليات سابقة في مصر على الأقل بل طوال تاريخ مصر الحديث منذ الحملة الفرنسية و حتى الآن كانت عبوة مصنعة في مصنع أو مستوردة من الخارج جاهزة؟و أما زعمهم أن التضييق على المعتدلين (الاخوان و الجماعة الاسلامية) هو السبب فهو مثل باقي التعليقات في عدم منطقيته لأن السادات اعطى حريات واسعة للاخوان لإحتواء الجهاديين و التكفيرين فلم ينجح الاخوان بل نجح الجهاديون في قتل السادات, فالتيار الجهادي ببساطة نشأ لعدم وجود تداول حقيقي للسلطة و لن ينتهي إلا عندما يقتنع أنه ممكن لأي احد الوصول للسلطة بشكل سلمي.و على كل حال فحصيلة كل هذه التعليقات تثير الاستغراب إذ كيف أجمع كل المعلقين على كلام واحد محدد غير منطقي و غير مستند لمعلومات صحيحة؟ على كل حال هناك تعليق واحد في العالم كله شذ عن هذا الاجماع الغريب و هو تعليق اللواء فؤاد علام وكيل إدارة جهاز امن الدولة السابق الذي لم يستبعد ان يكون اعتداء الاحد "فاتحة لموجة ارهاب جديدة في مصر". و لعل فؤاد علام يعرف أن إجماع المعلقين هذا هو تعبير عن أماني و ليس تحليلا و لا تعليقا على ماحدث.فصنع العبوة الناسفة يدويا شئ طبيعي فكل العبوات الناسفة في العالم يتم صنعها يدويا و أكبر التفجيرات التي حصلت في مصر سابقا هما تفجير موكب وزير الداخلية الأسبق حسن الألفي و بعده تفجير موكب رئيس الوزراء الأسبق عاطف صدقي, والعبوتان في كلا الحادثين صنعتا يدويا رغم أن تنظيم الجهاد صرف على الأخيرة حوالي مليون جنيه مصري, و لم يقتل في الأولى أحد بينما قتلت في الثانية ضحية واحدة من المارة, فالتفجير لا تقاس قوته بحجم القتلى أو المصابين أو بمن صنع العبوة الناسفة إنما مقياسه الوحيد هو وزن المادة المتفجرة الموضوعة في العبوة و نوعها, و هذا يحدده خبراء المعمل الجنائي فهم يحددون نوع المادة عبر أخذ عينات من بقايا العبوة و تحليلها أما وزن المادة فتأتي معرفته من حجم الحفرة التي خلفها الانفجار و مقدار النسف الذي حققه و قطر الدائرة الذي غطاها الانفجار, و المعلومات المتاحة حتى الآن تدل على أن هذه العبوة مصنعة بمهارة و تقنية مناسبة و أن حجمها إما متوسط أو فوق المتوسط بقليل و أن المادة المتفجرة فيها هي مادة متطورة فهي ليست من نوع المادة البدائية التي صنعت منها عبوتي خان الخليلي و عبد المنعم رياض في ابريل 2005م, أما كون المواد التي صنعت منها العبوة مواد محلية و عادية مثل تايمر غسالة الملابس الذي استعمل كمؤقت للعبوة, فهذا يعتبر دليل على المهارة العالية لمصنعي العبوة, لأن الجهاديين يلجأون لهذا الأسلوب للتغلب على الإجراءات الأمنية القوية التي تحاصرهم و يعتبرون هذا شطارة و مهارة و قد حدثني عدد من أخطر خبراء المتفجرات من تنظيم الجهاد أنهم كانوا يشترون المواد اللازمة لصناعة المتفجرات من عند العطار, و في الواقع أن هذا ليس غريبا عن الفكر العسكري المتقدم و لا هو إبتكار خاص بالجهاديين لسببين:الأول- أن المنظمات المسلحة المحاصرة أمنيا تستخدم ذلك من قديم الأزل, و المنظمات الفلسطينية على سبيل المثال تدرس دورة خاصة بالمتفجرات تسمى "المتفجرات الشعبية" تتعلق بهذه الأمور.الثاني- أن هذا موجود حتى لدي الدول فعندما حاصر الغرب دول العالم الثالث لمنعها من الحصول على تكنولوجيا تصنيع السلاح لجات هذه الدول لما سمي بالتكنولوجيا مزدوجة الاستخدام أي التي لها استخدام مدني و عسكري في أن واحد, و حينها بدأ الغرب يراقب هذه التكنولوجيا المزدوجة الاستخدام هي الأخرى.أما الكلام عن أن من أدلة البدائية في العملية أن العبوة الثانية لم تنفجر و تم تفكيكها, فهو متناقض أيضا لأنها لو لم تكن جاهزة للانفجار لما احتيج لتفكيكها و لما انسحب وزير الداخلية من المكان بسرعة إلى أن ينتهوا من تفكيكها, بل بالعكس وضع هذه العبوة الثانية بهذه الطريقة دليل على الاحتراف فهي لم توضع لضرب السياح بل وضعت لنسف وزير الداخلية و قادة الأمن الذين كان من المحتم أن يحتشدوا في المكان فور وقوع الحادث, فهو احتراف في الارهاب قابله إحتراف أمني بتوقع وجود مثل هذه العبوة و المسارعة بالبحث عنها و تفكيكها عبر خبراء المتفجرات.فالعملية فيها قدر كبير من الاحتراف.ليس هذا فقط بل هناك احتراف أيضا و يقظة من قبل الأمن, و الدليل أن العبوة وضعت في هذا المكان لتعذر الدخول بها في موقف الأتوبيسات السياحية, كما وضعت تحت المقعد الرخامي كي لا يرتاب بها أحد رغم أن ذلك قلل الاصابات لأن الرخام امتص قدرا من الموجة الانفجارية للعبوة.عادة ما توجد اعتبارات امنية لأي عملية ارهابية و هذا دليل احتراف المنفذ فلو كان أصر على وضعها في موقف الأتوبيسات أو في مكان ليس به حاجز يغطي العبوة لكان فشل في وضعها أو ألقي عليه القبض قبل أن يضعها.و هذا يرد على الذين قالوا لماذا وضعها هنا, و من ناحية أخرى فيحتمل أن العبوة لم تصنع بحجم أكبر من هذا حتى ينجح المنفذون في التنقل بها و بثها في مكان الحادث بسبب قوة الاجراءات الأمنية, كما من الممكن أن يكون المنفذون يسعون لتجريب قدرتهم في صنع العبوة قبل أن يضحوا بكمية أكبر من المادة المتفجرة, و هذا فعله نزيه نصحي بتفجير عبوة متوسطة في كازينو بشارع الهرم عام 1992م لتجريبها و نزيه هو الذي قتل بعد ذلك في محاولة تفجير موكب وزبر الداخلية حسن الألفي. و على كل حال فتفجير الأحد لو ثبت أن وراءه اسلاميين فهو يعلن عن وجود مجموعة جهادية قوية جديدة.و لكن لمن تنتمي .. هل تنتمي للجماعة الاسلامية؟غالبا لا, ليس لأن الجماعة الاسلامية أوقفت العنف و لكن لأن الجماعة الاسلامية في كل عملياتها طوال عشر سنوات لم تنجح في تصنيع و استخدام العبوات الناسفة و هي في أوج قوتها و إمكانياتها.هل تنتمي لتنظيم الجهاد؟غالبا لا, ليس لأن الجهاد عمل مراجعات, و لكن لأن تنظيم الجهاد لا يستهدف السياح, و المناقشات بين المجموعات الجهادية الجديدة قليلة العدد التي نشأت بعد عام 2004 م و شملتها التحقيقات في تفجيرات خان الخليلي و عبدالمنعم رياض 2005 م كشفت أن اتجاه عدم استهداف السياح مازال موجودا لدى من ينتمون لهذا الفكر, و كشفت أيضا أن الذي يرى إستهداف السياح هم المتعاطفون مع فكر القاعدة, كما أن كلام الظواهري في مناسبات متعددة يشير إلى ما يسميه باستهداف الصلبيين و اليهود, و كلمة الصلبيين في عرف الظواهرى و القاعدة تعني الولايات المتحدة و أوروبا, كما أن كلام الظواهري واضح في إعتبار رعايا هذه الدول هدف للمتعاطفين مع القاعدة.و بالتالي فإنه إذا كان انفجار القنبلة في حديقة الحسين الأحد الماضي قد فجر معه العديد من الأسئلة, فإن أهم هذه الأسئلة من وجهة نظري هو ماهو حجم و قدرة المتعاطفين مع القاعدة في مصر؟
عبدالمنعم منيب
كتبت هذا التحليل لجريدة الدستور اليومية و تم نشر ه بها. كما نشرته في مدونتي القديمة بتاريخ 27 فبراير 2009م
عبدالمنعم منيب
كتبت هذا التحليل لجريدة الدستور اليومية و تم نشر ه بها. كما نشرته في مدونتي القديمة بتاريخ 27 فبراير 2009م
مواضيع متعلقة:
حول مستقبل القاعدة
في العراق
تعليقات
إرسال تعليق