بعد صفعة الصين للعرب.. متى نفهم السياسة؟


وجَّهت الصين صفعةً قوية ومهينة للعرب الأسبوع الماضي، من خلال فعاليات المنتدى الاقتصادي الرابع الذي استضافتْه جمهورية الصين الشعبية، واستضافت من خلاله مجموعة من الرموز السياسية العربية، وعلى رأسهم عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية, وذلك عندما حاول الوفد العربي أن يمرِّر وثيقة تحمل في نصوصها فقرةً تشير إلى أن القدس الشرقية هي عاصمة الدولة الفلسطينية المقبلة، فبادر الصينيون إلى رفض هذه الفقرة رفضًا قاطعًا مطالبين بحذفها.

العرب كانوا يظنون أن أحفاد الرفيق ماوتستنغ لا يمكن أن تكون مواقفهم السياسية ضد الشعوب المظلومة.. العرب يدركون أن تواصل هذا المنتدى في سنته الرابعة قد أدى إلى زيادة التبادل التجاري مع الصين إلى ما يزيد عن المليار دولار.. العرب حينما تقدموا بهذه الفقرة اعتقدوا أن اعتماد الصين على البترول العربي بنسبة 95% يشجِّعها على التأكيد على حق عربي يتم تجاهله دوليًّا.

لكن الصينيين رفضوا رفضًا قاطعًا هذه الفقرة، والأكثر من ذلك أنهم ذهبوا بروتوكوليًّا إلى أبعد من ذلك حينما رفضوا الإجابة عن أسئلة الصحفيين بهذا الخصوص، ومن ثَمَّ قاموا بمنع الصحفيين من توجيه الأسئلة إلى ضيوفهم العرب حول نفس القضية.

لكن الأهمّ من هذه الصفعة هو أن التأمل السياسي العميق يشير إلى أن العرب لن يتعلموا من هذه الصفعة شيئًا بالضبط كما هو حالُهم الدائم مع كل الصفعات التي يتلقَّوْنها ليل نهار من عدد لا بأس به من دول العالم شرقًا وغربًا خاصةً من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وإسرائيل, فمع كل صفعة يتلقاها الساسة العرب نلمح صمتًا ذليلًا لا يقطعه إلا أصوات الميكروفونات العربية التي تبثُّ الشكوى على إيقاع الصراخ والنحيب العربي الذي يكاد يعمُّ كل الأرجاء بلا جدوى, لأن السياسة لا تعرف صراخًا ولا نحيبًا ولا شكاوى ولا شعارات فارغة, فالسياسة لغتها الوحيدة هي الفعل وعملتها الوحيدة لها وجهان لا ثالث لهما هما المصالح والقوة.. القوة بمعناها الشامل الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية والإعلامية والثقافية والعددية والدبلوماسية والعقائدية, أما غير ذلك من اللغات أو العملات فالسياسة لا تعبأُ بها, وخاسر من يظنُّ أن السياسة تعبأ بها, لأنه حينئذ يصير كمن يتعلق بخيط العنكبوت أو يعول على السراب, أو يعيش في الأوهام.

العرب تعودوا على أن يقدموا المصالح والمنافع السياسية للغرب وإسرائيل دون مقابل ونفس الشيء فعلوه مع الصين والهند, فالهند في عزّ صداقتها المزعومة مع العرب كانت تقدم السلاح سرًّا لإسرائيل لتقتل به العرب في مصر وسوريا والأردن في حرب 1967م في مقابل أن إسرائيل قدَّمت لها السلاح سرًّا لتقتل به المسلمين في باكستان في الحرب الهندية الباكستانية, والهدف الأهم الذي كانت تبتغيه الهند من إسرائيل هو الحصول على التكنولوجيا الغربية في مجال السلاح, أما الصين فإنها حافظتْ على علاقات قوية مع إسرائيل كلَّلتها بهذه الصفعة الأخيرة للعرب, وغرضها من هذه العلاقات الإسرائيلية هو الحصول على التكنولوجيا الغربية بصفة عامة والأمريكية بصفة خاصة, فضلًا عن التكنولوجيا الإسرائيلية الخاصة نفسها، حيث أن إسرائيل تعدُّ من جملة الدول المتقدمة تكنولوجيًّا على النهج الغربي, ولا تقتصر الأغراض الصينية تجاه إسرائيل على هذا، بل الأمر يذهب أبعد من ذلك، حيث أن الصين تعرف جيدًا أن إسرائيل تملك عقل وقلب أمريكا والغرب، ومن ثَمَّ فهي الباب الملكي للتأثير في توجهات أوروبا وأمريكا لصالح أي جهة، وهو ما تريده الصين؛ لأن للصين أهدافًا ومصالح كثيرة اقتصادية وسياسية لدى كل من أوروبا وأمريكا, فاقتصاديًّا نرى أن حجم التبادل التجاري وصل بين أمريكا والصين إلى أكثر من 253 مليار دولار سنويًّا، فضلا عن استثمار الصين 700 مليار دولار من احتياطيها النقدي في سندات الخزانة الأمريكية (يبلغ الاحتياطي النقدي الصيني أكثر من 2 تريليون دولار أمريكي كلها موضوعة بالعملة الأمريكية), أما مع الاتحاد الأوروبي فقد أصبحت الصين منذ مؤتمر الاتحاد الأوروبي الذي انعقد على مستوى القمة في سبتمبر 2006 "شريكًا استراتيجيًّا" يشمل التعاون بين الجانبين شتى الميادين العلمية والتقنية والاقتصادية بل والقانونية أيضًا, وكان حجمُ التجارة الصينية الأوروبية قد نما منذ عام 1978 بنسبة ثلاثين ضعفًا ليبلغ في عام 2005 حوالي 217 مليارًا من الدولارات.

ويتبوأُ الاتحاد الأوروبي المرتبة الأولى بين الشركاء التجاريين للصين، لأن حصة الإقليم الأوروبي من التجارة الصينية الخارجية كانت حسب آخر إحصائية متوفرة حوالي 19٪, وتتبوأ الصين المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية من حيث حجم التبادل التجاري مع أوروبا.

فهذه هي المصالح الاقتصادية السائدة بين الصين والغرب.

أما العرب فإن كان للصين معهم مصالح سياسية واقتصادية واسعة جدًّا أيضًا، إلا أن العرب لا يتكلمون لغة السياسة التي هي لغة الفعل, العرب قوم لا يضرون عدوهم ولا ينفعون صديقهم, فمهما صفعتهم أي دولة في العالم فمصالحها معهم محفوظة لا يضرها شيء, ومن ثَمَّ فالصين لا تخاف من غضبتهم؛ لأن غضبهم لا ينفع ولا يضر وكأن العرب لم يعوا قول الشاعر العربي:

إذا أنت لم تنفع فضرّ فإنما يُراد الفتى كيما يضر وينفع

لكن الصين تخاف من غضب الغرب لو أنها أغضبت إسرائيل، وبالتالي فليصفع الصينيون العرب دون خشية أي عواقب.

وهذه السياسة التي تعتمدها الصين هي في جوهرها السياسة في كل عصر ومصر، لغتها الفعل وعملتها المصالح والقوة.

لكن هبْ أن دولة ما أو قوة سياسية ما لم تملك هذه العملة (القوة/ المصالح) فماذا تعمل؟

لا شك أن دوران الزمان قد يجعل قوة ما ضعيفة في وقت ما لا تملك مصالح لتبذلها ولا قوة لتهدد بها, لكن لا يمكن أبدًا أن تكون وهي في هذه الحال فاقدة للقدرة على الفعل -وإلا لانعدم التكليف الشرعي- ومن هنا فالحكمة والحال هكذا أن تحدد لنفسها استراتيجية محددة المعالم ولها جدولها الزمني الواضح كي تكتسب القوة والموارد التي تمكنها من أن تضرّ أعداءها وتنفع أصدقاءها, وكلما اكتسبت قدرًا من ذلك استثمرته سياسيًّا كي تزيد من قدرتها وقوتها ومواردها، وهكذا حتى تتعاظم موارد قدرتها وقوتها لأبعد مدى ممكن، وقبل ذلك كله تكون قادرةً على الفعل, لأن مشكلة العالم العربي والإسلامي ليست قلة الموارد ولكنها سوء استخدام هذه الموارد مع العجز عن الفعل, وهذا كله درس آخر في جوهر السياسة لعل له مناسبة أخرى إن شاء الله تعالى.

عبد المنعم منيب
موضوعات متعلقة



تعليقات