المطَّلِع على طبيعة التيار السلفي وخطابه العام وخطابه السياسي يمكنه أن يطِلَّ بسهولة على تأثير التيار السلفي على المجال العام في مصر, كما يمكنه فهم علاقة التيار السلفي وتأثيره على الحالة السياسية في مصر بعامة، وكذلك تأثيره على حالة تيار إسلامي آخر اصطلح البعض على تسميته بتيار الإسلام السياسي بشكل خاص.
ومن الواضح أن التيار السلفي مهتم بالشئون السياسية والشئون العامة، ومشتبك بشكل ما مع القضايا السياسية المحلية والدولية, لكنه عازف من جهة أخرى عن التفاعل مع بعض جوانب الحياة السياسية؛ باعتباره لا يؤيد الانتخابات البرلمانية، وذلك الموقف يأتي من منظور عقائدي, وإن كان السلفيون يرون أن موقفهم هذا هو موقف خلافي يسعى الإسلاميون بصدده أن تتعدد آراؤهم، فيشارك منهم من شاء في الانتخابات البرلمانية ناخبًا ومرشحًا، ويمتنع منهم مَن شاء عن هذه المشاركة, ولكن السلفيين المصريين مع ذلك لا يشاركون هم وأتباعهم في الانتخابات البرلمانية ويحرمون هذه المشاركة.
ونفس الموقف الرافض للانتخابات البرلمانية نجده إزاء المظاهرات, ومن هنا فقد السلفيون أداتين مهمَّتين للتعبير عن مواقفهم السياسية وللضغط على النظام الحاكم لتحقيق مطالبِهم وأهدافِهم.
لكن هذا لا يقلِّل من القيمة -الكمية والنوعية- للوعي السياسي الذي رسخه ويرسخه السلفيون في الحياة السياسية المصرية عبر تأثيرهم البالغ في المجال العام المصري عبر الفضائيات الإسلامية وشبكة الإنترنت والأقراص المدمجة وشرائط الكاسيت.
من الطبيعي أن لا نلمس الآثار المباشرة لهذا الوعي السياسي الآن؛ لأن انتشار هذا الوعي لم يأخذ مداه بعد؛ بسبب أنه لم يبدأ في أخذ المنحى الجماهيري، إلا ربما في السنوات الخمس الأخيرة، عندما بدأ متصفحو الإنترنت في مصر يشكِّلون جمهورًا ذا قيمة عددية ذات شأن بدرجة ما, وكذلك عندما بدأت القنوات التليفزيونية السلفية تأخذ حيِّزًا من الوجود، وهذا كله لا يتعدى السنوات الخمس الأخيرة, لكن لا شك أنه مع مرور الوقت، وفي غضون السنوات القليلة القادمة سنبدأ في تلمُّس أثر الفكر السياسي السلفي في المجال العام المصري, صحيح أن هذا سيتمُّ بمعدلات بطيئة، لكنه بلا شك سيتم, ورغم ذلك فيمكننا القول باطمئنان أن التيار السلفي هو حركة إصلاح وتغيير اجتماعي وسياسي مؤجلة.. لكن لماذا نرى ذلك؟
أولًا بالنسبة لكونها حركة تغيير سياسي واجتماعي فهذا واضح, لكن لماذا هي مؤجلة؟
هي ليست مؤجلة بسبب أن دعوتها لم تبدأ في أخذ المنحى الجماهيري إلا ربما في السنوات الخمس الأخيرة، ولكنها مؤجلة بسبب أن التيار السلفي لا يملك الأدوات والتكتيكات اللازمة لتحقيق الاستراتيجية التي خطَّها السلفيون لأنفسهم, فضلًا عن أن الاستراتيجية السلفية نفسها فيها قدرٌ من القصور، وتحديدًا في الحلقة التي تربط بين مرحلتي التصفية والتربية من ناحية، وبين مرحلة إقامة الدولة الإسلامية (أو أسلمة المجتمع) فهذه الحلقة غائمةٌ تمامًا في الفكر السلفي؛ إذ لم يذكر أي من مشايخ السلفيين أي إيضاح أو تفصيل حول هذه المرحلة، ولا يمكن لأي محلِّل أن يتلمس أي لمحات تشير لطبيعة هذه المرحلة أو حتى إطارها العام.
وبصفة عامة فالسلفيون لديهم استراتيجية وليس لديهم تكتيك جدير بتحقيق هذه الاستراتيجية، فضلًا عما أشرنا إليه آنفًا من قصور في نفس هذه الاستراتيجية.
ولكن ما التأثير المرتقب للسلفيين على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المصرية؟
تأثيرهم سيظلُّ مقتصرًا على مظاهر التدين التي تلون وجه المجتمع بشكل أو بآخر في كافة المجالات, أما التأثير الجوهري والفعلي فسيظلُّ مؤجلًا إلى حين يقتنع بالعقيدة والفكر السلفي عدد من الشخصيات ذات الخصائص القيادية التي تمتلك قدرًا من ملكات الزعامة، مع قدر وافر من الخبرات السياسية والاستراتيجية، وحينئذ ستقوم هذه الشخصيات بمعالجة جوانب القصور في الاستراتيجية السلفية، كما ستبتكر التكتيكات المناسبة لها، وتسعى بذلك لإحداث تأثير عميق في المجتمع المصري على كل المستويات, أما قبل ذلك فسيظل التيار السلفي نخبةً عددُها محدودٌ من العلماء الدينيين والدعاة وطلبة العلم والباحثين إذا قارناه بتعداد الشعب المصري, وإن تمحور حول هذا التيار مئات الآلاف أو حتى بضعة ملايين ممن يتدينون تدينًا أغلبه تديُّنٌ مظهري فقط, لأن الدعوة السلفية العامة عبر الفضائيات وشبكة الإنترنت لا تكفي لإجراء تعديل جذري في سلوكيات وعقائد الأشخاص دون أن يكون لها رديفٌ من القيود والكوابح الاجتماعية التي تنتج عادة من شبكة العلاقات الاجتماعية المتشابكة في الأسرة والمسجد والنادي والنقابة ومكان العمل أو المدرسة أو الجامعة، وهذه الشبكة لا توفرها الدعوة السلفية التي لا تنطلق قوتُها العظمى الضاربة إلا من الفضائيات وشبكة الإنترنت والكتب وشرائط الكاسيت، ولا يمكن للسلفيين توفير هذه الشبكة في ظلّ الظروف السياسية الراهنة، ولا في ظل طبيعة تكتيكاتهم الدعوية والتربوية الحالية بما فيها من خَلَل وقصور.
وباعتبار أن المجال العام هو أشبه ما يكون بالمجال الذي يتكون فيه الرأي العام بعيدًا عن القيود الرسمية أو الطبقية, فإن الواقع السلفي بسِماتِه العامة التي ذكرناها له تأثيرٌ ما على اتجاهات هذا المجال العام, إلا أنه نظرًا لأننا نعيش واقعًا سياسيًّا ديكتاتوريًّا لا يُلقي بالًا لاتجاهات المجال العام أو الرأي العام حيث لا يشكِّل الرأي أو المجال العام أي عامل ضغط على صانع القرار، فإنه لا ينتظر أن يساهم التيار السلفي في تغيير اتجاهات صانع القرار إذا ظلَّت جميعُ المتغيرات السياسية الحالية ثابتةً كما هي.
كما لا ينتظر أن يغير النظام الحاكم من سياسته تجاه السلفيين، باعتبار أن سياسته هذه هي وليدة حسابات ومعادلات سياسية عديدة أملت على النظام هذه السياسة، لأن السلفيين يمثلون حائط صد وصمام أمان فكري ضد مد التيار الجهادي ومد جماعة الإخوان المسلمين، وأيضًا مد المذهب الشيعي الجعفري الذي يمثله حزب الله اللبناني في المنطقة العربية, فلو قمع النظام الحاكم السلفيين قادةً ودعاةً فإن جمهورهم الواسع قد يمثِّل تربة خصبة للاتجاهات الفكرية الثلاثة المذكورة, ومن هنا جاء السماح الحكومي للسلفيين بالعمل بقيود وضوابط أمنية وسياسية عديدة, فهو اضطرارٌ سياسي حكومي وليس مجاملة للسلفيين أو رضا عنهم.
ومن هنا اعتبر البعض أن السلفيين يعطِّلون حركات الإسلام السياسي، لكننا نعتبر أن الذي عطل حركات الإسلام السياسي (جهاديين كانوا أم إخوانًا مسلمين) هو ما شاب استراتيجيات وتكتيكات هذه الحركات من قصور وخَلَل, لأن الساحة المصرية ساحةٌ واسعة وخصبة على كل مستويات العمل السياسي والاجتماعي والديني، ولم تبلغ بعد أي من التيارات السياسية أو الدينية مبلغ أن تؤدي منافستُها لتعطيل نظرائها من الحركات الأخرى, إذا كانت هذه الأخرى ذات حركة فعالة, إنما التعطيل الحادث والذي تعزف السلطة على أوتاره إنما ينتج من عدم فاعلية الجميع بشكل يجعل الجميع يعرقل بعضهم بعضًا, ومن هنا يمكن القول بأن الإخوان المسلمين والجهاديين يعطل كل منهما الآخر وهم يعطلون السلفيين أيضًا.
عبدالمنعم منيب
موضوعات متعلقة
تعليقات
إرسال تعليق