مسلسل تفتيت الدول العربية

في الشهور القليلة القادمة يتحدَّد مستقبل أكبر دولة عربية وإفريقية -من حيث المساحة- عندما تتمُّ (أو لا تتمّ) عملية الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان, وهذه المناسبة تذكِّرُنا بأن هناك مخططًا قديمًا بشأن تفتيت الأقطار العربية لمزيدٍ من الدول بغرض دفعها جميعًا لمزيد من الضعف والتحالف مع الغرب وتسهيل أمر السيطرة على المنطقة لصالح الغرب وإسرائيل.

لقد شكَّك كثيرون في وجود هذا المخطط أصلًا رغم إثبات العديد من الباحثين السياسيين البارزين لوجود هذا المخطط, كما أن العديدين وإن صدَّقوا بوجود هذا المخطط برعاية إسرائيلية وغربية فإنهم قد شكَّكوا في إمكانية تحقيقِه, كان هذا في بداية الثمانينيات أو حتى أواخر السبعينيات من القرن العشرين, لكن الآن أصبحت عملية تفتيت أقطار عربية أمرًا واضحًا لكل ذي عينين, ورغم أن الأمر بدأ بمؤامرة التمَرُّد في جنوب السودان منذ بداية الثمانينيات إلا أننا الآن -وبعد مرور ثلاثة عقود- نرى التفتيت يسير في العالم العربي على قدَمٍ وساق على الأقل في كل من العراق واليمن والصومال والسودان ولبنان، وحتى دولة كمصر عريقة في الوحدة والمركزية نرى الآن تصاعد النزعات الانفصاليَّة فيها من قِبل الأقباط بتحريض وزعامة الكنيسة القبطِيَّة.

ويمكنُنا الآن بعد مرور ثلاثة عقود على بداية محاولات التفتيت في العالم العربي أن نَلْمَح العوامل الرئيسة التي اعتَادَ أعداء الأمة على استغلالها لإجراء عملية التفتيت، بدايةً من استدعاء النزعات الانفصالية وحتى تفعيلها وتطويرها, وعبر الإطلال على هذه العوامل يمكننا أن نفكِّر بموضوعية في أساليب جادة لإفشال عمليات التفتيت الحالية والمستقبلية في كل أرجاء العالم العربي والإسلامي.

وأول العوامل التي استغلَّها أعداؤنا في التفتيت هي وجود أقلِّيَّة عرقيَّة أو دينية، وهذه الأقلية عادةً ما يتمُّ استغلالُها من أجل التفتيت عبر تغذية روح التعصُّب الديني أو العِرقي لديها وإشعارها بالظلم حتى لو لم تكنْ مظلومةً كما يتمُّ تغذية روح الاستقلال لديها وتعبئتها حول زعامات إما مصنوعة في الغرب وإما مصنوعة محلِّيًّا عبر دعم ومساندة الغرب وإسرائيل.

وكي تنجحَ هذه العمليات لا بدَّ من وجود عامل آخر مهِمّ في تسريع عملية التفتيت، ألا وهو ظلم الأقليات العِرقية أو الدينية أو اللغوية, وطبعًا هذا الظلم موجود أحيانًا على نطاق واسع، وفي أحيان أخرى يكون موجودًا بقدر ضئيل لكن قوى سياسية طائفية داخليَّة تقوم بتضخيمه في نفوس الأقلية العرقية أو الدينية لاستغلال الموقف لصالح فكْرِها الانفصالي ويدعمها في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل وقوى إقليمية متعدِّدَة لأهداف متنوِّعة.

ويأتي ضعف الجيش والقوى الأمنية كعامل أساسي بارز في نجاح عمليات التفتيت؛ إذ إن هذا الضعف هو أهمّ عامل لتنفيذ التفتيت عمليًّا على أرض الواقع وإقامة الكيانات الجديدة المنبثِقَة من الكيان الأم، كما حدث فيما يسمى بجمهورية أرض الصومال وبلاد بونت في الصومال ودولة الأكراد في العراق ودولة الجبهة الشعبية في جنوب السودان ونحوها.

وهناك عاملٌ آخر وهو عامل فكري، لكنه هام جدًّا، وهو عاملٌ يتعلَّق بطبيعة التفكير السياسي والاستراتيجي, ففي بعض الحالات كانت القوى الأمنيَّة في الدولة قوية إزاء قوى التمرُّد، ولكنها فشلت في إخماد التمَرُّد كما حدث في العراق والسودان في فترات مختلفة، لكن الفشل هنا يرجع لخَلَل في الفكر السياسي والاستراتيجي؛ حيث ارتكزت الدولة على القوة الغاشمة وحدها في محاولة إخضاع التمَرُّد، وهي وصفة أكيدة للفشل الذَّريع في القضاء على أي تمرُّد؛ إذ إن معالجة أي تمرُّد تقتضي المزج بين القوة الصلبة والقوة الناعمة بنِسَب يتمُّ تحديدُها بذكاء وحنكة وإدراك واعٍ جدًّا بواقع هذا التمرُّد وبطبيعة قيادته العليا والوسطى وقواعده الشعبية, القوة الناعمة نقصد بها هنا أمورًا كثيرةً من ضمنها الدبلوماسية والإعلام والمساعدات الاقتصادية والثقافة والفكر والأدب والفن، فضلًا عن الأعمال السياسية المختلفة، وعلى رأْسِها عزلُ قواعد التمرد عن قيادته وتعرية حقيقة قيادَتِه وعمالتها للغرب أمام الجميع مع محاولة استمالة أطياف من القادة والتفريق بين الباقين، فضلًا عن استمالة القواعد بطرق مختلفة, ومن ضمن الأعمال السياسية أيضًا، وطبعا عزل التمرد عن مسانديه الخارجيين بطرق مختلفة وبأقصى درجة ممكنة.

ومن ناحيةٍ أخرى لعبت القبلية دور التربة الخصبة لعمليات التمرُّد, وهذا ينبِّهُنا لأهمية الاهتمام بربط القبيلة بالانتماء العام للأمة، لئلَّا تظلَّ هكذا عاملًا سلبيًّا يعمل ضد الوحدة في العديد من البلدان العربية والإسلامية.

ومما يؤسَف له أن التناحُرَ والحرب الباردة بين الدول العربية لعبا دورًا بارِزًا في مساندة وتمويل عمليات التفتيت، وهذا عاملٌ سلبي آخر في عملية التفتيت, ولبنان نموذج واضح في هذا المجال كما لا ننسى أن العديد من الدول الإسلامية موَّلت ودعمت عسكريًّا تمرُّدات السودان في الشرق والغرب والجنوب.

عمليات التفتيت التي جرتْ وتجري في العالم الإسلامي، وبخاصة في العالم العربي، نجحتْ حتى الآن وتسير قُدُمًا بمعدل ملموس ومطَّرِد, وهي جزء أو لون من ألوان أو أجزاء الأزمة الإسلامية والعربية العامة التي لا فَكَاك منها إلا بصحوة إسلامية فكرية وعلمية وحركية, ولكن هذا الحل هو:

أولًا- مضمون عام يندرِج تحته ويتفرَّع عنه دراسة كل حالة من حالات الواقع السياسي ومشكلاتِه من أجل مواجهتِها وحلِّها بشكلٍ موضوعي وعملي بشكل دقيق.

ثانيًا- محاولة للمساعدة في الحلّ الجزئي لهذه المشكلة, إذ لا مانع من إجراء حلول محدودة زمانًا ومكانًا ونوعًا للتقليل والحدّ من حَجْم التدهوُر الذي تنحدرُ فيه الأمة الإسلامية عبر أعمال جزئيَّة تحقِّق ذلك, إذ ليس من الحكمة في شيء الوقوف مكتوفي الأيدي أمام المشكلات والأزمات التي تلمُّ بالأمة بدعوى انتظار الحل الكامل والشامل والمثالي كالوحدة الإسلامية الشاملة أو عودة الخلافة الإسلامية بينما الأمة تئِنُّ بل تنزف دمًا من وطأة مشكلاتِها وأزماتِها.

ثالثًا- التوعية بجانب من جوانب واقع عملية التفتيت التي تجري في العالم الإسلامي بغَرَض لفْتِ أنظار الاستراتيجيين الإسلاميين لوضع هذه الجوانب التي ذكرناها في حساباتهم عند التفكُّر والعمل وتحديد الأولويات في مجال العمل السياسي والدعويّ الإسلامي.

وعلى كلِّ حالٍ فلفتنا الانتباه لكثير من جزئيات المشكلة لا ينفي أهمية امتلاك الطرف الإسلامي للقوة الشاملة بمعناها الاستراتيجي الشامل للقيام بحلّ هذه المشكلة؛ لأنها مشكلةٌ قديمة طالما اعترت العالم الإسلامي كلما أصاب حُكَّامَه الضعف وكلَّمَا أصاب فكره السياسي والاستراتيجي الركود والجمود كما حصل في فترات من عصور الدول الأموية والعباسية والعثمانية وغيرها, "وَاللّه غَالِبٌ عَلَى أَمْرِه وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ" (يوسف21).
عبد المنعم منيب 
 موضوعات متعلقة



تعليقات