مِن الملاحظ أن الدعوة الإسلامية بعامة والعديد من المفاهيم الإسلامية بشكل خاص باتت تتعرض للهجوم والانتقاد من قِبل الكثير من القوى الموالية للحضارة الغربية, وأصبحنا نشهد حربًا ضد العديد من المفاهيم الإسلامية الثابتة، ليس فقط في دول غربية بل في العديد من دول العالم الإسلامي, فتارة ضد النقاب وتارة ضد الخطاب الديني الذي يكفّر الآخر، ويهدفون من وراء ذلك صراحة إلى إلغاء الآيات التي تصرّح بكفر اليهود والنصارى, وتارة يهاجمون السنة النبوية فيسعَون لإلغاء المصدر الثاني للتشريع بدعوى العقلانية وتنزيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن النقائص التي يزعمون أن الأحاديث تلصقها بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم, وتارة ضد الالتزام الإسلامي بصفة عامة بدعوى أنه التزام مظهري لا قيمة له، وأنه يعبر عن تخلف ورجعية واهتمام بالمظهر على حساب الجوهر, وهكذا دواليك حيث يخرج علينا كل يوم هجوم جديد يحمل شبهة جديدة, وهذا ليس خطيرًا في حدّ ذاته لأن الإسلام واجَهَ العديد من الشبهات منذ فجر الدعوة المحمدية وحتى الآن, بدءًا من التشكيك في صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه وصدق دعوته ثم مرورًا بالفِرق الضالَّة الكثيرة التي انشقَّت عن أهل السنة والجماعة في أصول الدين والاعتقاد, وبالتالي فالإسلام قادرٌ بقوتِهِ الذاتية على التصدي للشبهات, لكن رغم ذلك فهناك شيء خطير هو أن هذه الدعاوى تساندها السلطة في العديد من بلدان العالم الإسلامي, فلا تظلّ في حجمها الحقيقي من كونها مجرد شبهة فكرية يقوم الدعاة والعلماء بالردّ عليها، بل تتحول إلى قرار سياسي له نفوذُه كما أنه يتم ترجمته إلى قوانين ولوائح وقواعد عامة لها درجتُها من الإلزام.
وسبب ذلك من وجهة نظرنا كثيرة، لكن الذي نريد التركيز عليه في الآن هو افتقاد الحركة الإسلامية لأوراق الضغط السياسي, إذ من المعروف أن أدوات العمل السياسي تنقسم إلى قسمين رئيسيين هما:
الأول- يشمل أدوات الإقناع: كالإعلام والدبلوماسية بكل أدواتها من تفاوض ومناظرات ووساطة وتحكيم وغيره.
والثاني- يشمل أدوات الإكراه: كالقوة العسكرية والضغوط الاقتصادية وغير ذلك، ومن تلك الأدوات على المستوى الداخلي القمع الأمني.
ورغم أن الحركة الإسلامية لديها العديد من الخيارات بشأن أدوات الإقناع لكنها تهدِر أكثرها، فليس للحركة الإسلامية مطبوعة يومية تعبر عن مواقفها السياسية وتدافع عنها وتنتقد خصومها, بل في دولة كبيرة كمصر لا توجد حتى مطبوعة أسبوعية أو شهرية بهذه الصفة, أما الفضائيات فلا يوجد فضائية إسلامية عالمية بمستوى الجزيرة مثلًا، رغم أن هذا مطلوب حتميًّا للحركة الإسلامية, أما الفضائيات الإسلامية الكثيرة فكلها تقريبًا ذات طبيعة محلية ومقيَّدة بقيود سياسية محلية، كما أن 99% منها لا تهتم بالسياسة أصلًا, وبالتالي لا تنشر الوعي السياسي الإسلامي كما لا تدافع عن المواقف السياسية للحركة الإسلامية ولا تهاجم خصومها السياسيين وتنتصر منهم.
وأيضًا الحركة الإسلامية نادرًا ما تمارس أدوات الدبلوماسية أو العلاقات العامة أو المناظرات السياسية أو التحكيم ليس فقط مع خصومها بل وحتى فيما بين فصائل الحركة الإسلامية نفسها نادرًا ما تجد شيئًا كهذا.
أما في مجال أدوات الإكراه السياسي فلا شك أن الحركة الإسلامية لا تملِك خيارات كثيرة في هذا المجال؛ لأنها لا تقود دولةً ولكن القدرة على الإبداع وقوة التخيل السياسي وصلابة الإرادة ومهارة القيام بمخاطرات محسوبة ممكن أن تمنح الحركة الإسلامية قدرًا من أدوات الضغط لتعوض بها قلة خياراتها في مجال أدوات الإكراه، لا سيَّما أن خصوم الحركة الإسلامية يستخدمون أدوات الإكراه ضدّها على نطاق واسع وبلا أدنى رحمة.
وفي هذا الصدد يمكننا اقتراح بعض الأمور في هذا المجال, منها:
تحريك الدعاوى القضائية المحلية والدولية لإبطال مفعول بعض الإجراءات المتخذة ضد الإسلاميين مع التعويض المادي والأدبي عن بعض الأضرار التي خلّفتها مثل هذه الإجراءات, أو في أسوأ الحالات تقييد هذه الإجراءات أو الحدّ من آثارها أو جعل الاستمرار فيها أكثرَ كلفة ومشقة على القائم بها, ذلك لأن القوانين المحلية والدولية فيها تأييد لكثير من الحريات وحقوق الإنسان، وإنما يأتي القمعُ المحلي والدولي للحركة الإسلامية بالمخالفة لهذه القوانين ومن المفيد للحركة الإسلامية تفعيل العديد من هذه الحقوق والحريات التي تكفلها هذه القوانين, والضغط القضائي الإسلامي المنتظم والمستمر بتركيز كبير وبإبداع -من منطلق معرفة عميقة للخيارات القانونية الدولية والمحلية لتفعيلها- سوف يسبب إرباكًا للقوى المناوئة للحركة الإسلامية، وسوف يجعلها تدفع ثمنًا لإجراءاتها القمعية ضد الإسلاميين, وسيجعلها تدرك أن لكل فعل عدائي تقوم به ضد الحركة الإسلامية أو أحد أبنائها عواقب لا بدَّ من أن تأخذها في الحسبان دائمًا.
أيضًا من أوراق الضغط الهامة جدًّا للحركة الإسلامية مخاطبة الغرب وكسب ولاء وتأييد قطاعاته القابلة لذلك (مثل جماعات الدفاع عن حقوق الإنسان ومناهضي العولمة والمدافعين عن البيئة وبعض قوى اليسار وغيرها) وحريّ بالحركة الإسلامية أن تديرَ جماعة ضغط في كل دولة من دول العالم لتستخدمها لخدمة قضايا ومواقف العمل الإسلامي في كل أقطار العالم بالتبادل, فمثلًا في لبنان تضغط لتحقيق مكاسب للحركة الإسلامية المصرية وفي مصر تضغط لصالح الحركة الإسلامية اللبنانية (وهذا مثالٌ موحٍ لأن السياسية الحكومية والحزبية لكل من مصر ولبنان تتداخل ولكل منهما مصالح مرتبطة بالآخر), ويتأكد ذلك وتزداد أهميته وفوائده فيما يتعلق بالضغط داخل الدول الأوروبية والأمريكية لصالح الحركة الإسلامية في العالم الإسلامي لذي يتلقى كله معونات من أوروبا وأمريكا إما مالية وإما سياسية وأمنية.
كذلك من أدوات الضغط القوية ممارسة المظاهرات والإضرابات والاعتصامات وصولًا إلى العصيان المدني الشامل, بشرط أن تجري أي من هذه الأمور بأعداد مناسبة لطبيعتها ولزمانها ومكانها وهدفها, وتكون منظمة وبعيدة عن الفوضى والعشوائية والتعدي على الممتلكات العامة والخاصة, وأن تمتد زمانًا ومكانًا حسب المخطط لها بشرط أن يكون قد خطّط لها بشكلٍ علمي وموضوعي دقيق.
ومن أوراق الضغط الفعالة أيضًا شن حملات إعلامية كبيرة ومنظمة وواسعة النطاق على شخص متخذ القرار القمعيّ ضد الحركة الإسلامية أو أحد أبنائها تفضح كل سلبياته وانحرافاته وتعرِّيها أمام الرأي العام كي يعرفوا حقيقته المزرية, ولا شك أن لكل صانعي قرارات وممارسات القمع فضائحهم وانحرافاتهم التي يتضررون من أن يتناولها الإعلام على نطاق واسع ومستمر ومنظم, ومما يكمل أداة الضغط هذه تحريك الدعاوى القضائية ضده بشأن هذه الانحرافات في الداخل والخارج، حتى لو كانت هذه الانحرافات ليست لها علاقة بالسياسة كأن تكون مالية أو أخلاقية مثلًا, لكن يتحتم أن يكون ذلك بعيدًا عن أي كذب أو خداع.
إن ممارسة العمل الإسلامي بلا أوراق ضغط يضاعف من احتمالات الفشل ويغرِي خصوم الحركة الإسلامية بممارسة مزيد من القمع والاضطهاد ضدها بكل الأشكال دون شفقة وبلا أدنى تكلفة.
ولا شك أن أعداء الحركة الإسلامية سيضغطون عليها في البداية لإقناعها بالتخلي عن ممارسة أي من أوراق الضغط، وسوف يصوِّرُون لها أن هذا الضرب من العمل السياسي ممنوع عليها، وأنه سيجرّ عليها الكثير من المشاكل، لكن إذا صبرت الحركة الإسلامية وصابرت واستمرت في الضغط فسترى بفضل الله تعالى نتائج طيبة جدًّا على المديَيْن البعيد والمتوسط, ولن يعين الحركة الإسلامية على الثبات في هذا السبيل (سبيل استخدام أدوات الضغط في العمل السياسي) سوى أن تعي جيدًا أنه لا توجد سياسة ناجحة بلا أنياب، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر.
عبد المنعم منيب
تم نشر هذا الموضوع في موقع اسلام تودي السبت 08 صفر 1431 الموافق 23 يناير 2010
موضوعات متعلقة
تعليقات
إرسال تعليق