عددٌ من الأخبار عن كُلٍّ من إيران وباكستان وطالبان، تم تداولها في الآونة الأخيرة في وسائل الإعلام، ومررنا عليها مرور الكرام، وكأنها لا صِلَةَ بينها، رُغْمَ أن قراءتَهَا قراءةً عميقةً تكشف عن رابطٍ ما بينها, هذا الرابط يُمَثِّلُ درسًا هامًّا في جوهر الاستراتيجية والسياسة الدولية.فلْنُعِدْ معًا قراءةَ هذه الأخبار، ونتأمَّلُهَا تأَمُّلًا عميقًا مرةً أخرى؛ لنظفر بالدرس الهام:
قال الرئيس الامريكي باراك أوباما: إن القاعدة وطالبان هما "أكبر تهديدٍ مباشر" للأمن القومي الامريكي.
قالت صحيفة ديلي تلجراف في 12/4/2009: إن "باكستان تبقى أكبرَ تهديدٍ لِأَمْنِ الغرب"، بينما رأتْ صحيفة الإندبندنت في مقالٍ لها بتاريخ 12/4/2009 أن "أمن بريطانيا رَهْنٌ بِكَبْحِ جماح الإرهاب في باكستان".
وهذا قريبٌ مما سبق وأشارتْ له صحيفة واشنطن بوست في افتتاحيتها بتاريخ 4/3/2009 تحت عنوان "خطر باكستان"، بقولها: إنه في الوقت الذي تُصَارِعُ فيه إدارة الرئيس أوباما الزَّمَنَ لوضع استراتيجيةٍ لأفغانستان وباكستان، تتوالَى الأنباءُ السَّيِّئَةُ من المنطقة؛ حيث ارتفعَتِ الخسائر البشرية بين القوات الأمريكية هذا العامَ عن مُعَدَّلَاتِها السابقة لعام 2008، بينما يُعَانِي النظام السياسي الباكستاني من النزاعات الداخلية بين الحكومة المدنية للرئيس آصف علي زارداري، والأحزاب السياسية المنافسة في الوقت الذي يترنح فيه الاقتصاد. ولكن ما يثير إنزعاج الحكومة الأمريكية, وَفْقَ ما تقول الصحيفة, هو استيلاءُ طالبانَ على أجزاء واسعة من الأراضي في إقليم سوات الذي يَبْعُدُ 100 ميل عن العاصمة الباكستانية إسلام أباد. وترى الافتتاحية أن إدارة الرئيس أوباما تُوَاجِهُ تَحَدِّيًا في إقناع قادة الجيش الباكستاني والقادة المدنيين بمواجهةِ خطر الإسلاميين، بدلًا من توجيه الجيش الباكستاني نحو الهند.
صرح الرئيس الأمريكي أوباما أنه حتى في حالة فشل الجهود الدبلوماسية مع إيران فإنه لا لجوءَ لضربةٍ عسكريةٍ ضدها.
قال الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريز: إنه يمكن احتواء إيران مُسلَّحَةً نوويًّا عبر التهديدات بالانتقام. وقَلَّلَ بيريز من جدوى الخيار العسكري, قائلًا " يُمْكِنُك أَنْ تُدَمِّرَ أجهزة الطرد المركزي (لتخصيب اليورانيوم) لكن لا يمكنك تدمير المعرفة ببناء اجهزة الطرد المركزي."و في سياق متصل نشرت صحف عبرية، مقاطع من مقابلة أجرتها صحيفة روسية مع وزير الخارجية "الإسرائيلي" أفيغدور ليبرمان، اقترح فيها معالجةَ التهديدِ النووي الباكستاني والأفغاني قبل إيران.
ورأى أن إيران ليست التهديدَ الأَكْبَرَ في المنطقة، وإنما باكستان وأفغانستان، فيما إيران تَحُلُّ في المكان الثاني.إلى هنا فالأخبارُ صريحةٌ في أن هناك اختلافًا في التعامل الأمريكي والإسرائيلي مع كُلٍّ من باكستان وإيران, فالتعامل مع إيران واضِحٌ في مَيْلِهِ للحلول الدبلوماسية، بينما التعامُلُ مع باكستان فَوَاضِحٌ فيه الحِدَّةُ والْبُعْدُ عن الأساليب الدبلوماسية والاتجاهُ لاستخدام الضغوط, و ربما يظن البعض أن هذا الْمَيْلَ هو من آثارِ الاستراتيجية الجديدة للرئيس الأمريكي الجديد أوباما، لكنه سبق ونَشَرَتْ صحف بريطانية وأمريكِيَّةٌ عن خطط وتدريبات عسكرية أمريكية لغزو باكستان والاستيلاء على سلاحها النووي، ونَقْلِهِ إلى الولايات المتحدة (على سبيل المثال: الجارديان 1 ديسمبر 2007م , واشنطن بوست 3 ديسمبر 2007م) بل الأكثر من ذلك أن صحيفة نيويورك تايمز (7 يوليو 2007م) نشرتْ خبرًا عن إلغاء عمليةٍ أمريكِيَّةٍ لغزو باكستان قبل لحظاتٍ من تَحَرُّكِ قوات الغزو, وذكرتِ الصحيفة أن هدف العملية كان الاستيلاء على الأسلحةِ النووية الباكستانية واعتقال قادةِ مَنْ زَعَمَتْ أنهم أعضاءُ كبَارٌ في تنظيم القاعدة، كانوا موجودين في المناطق القبلية الباكستانية.إذن فالولايات المتحدة تَعْمَلُ بصلف واضِح على إضعاف باكستان، والضَّغْطِ عليها بكل السبل، بما في ذلك الضَّغْطُ العسكريُّ عبر استباحَتِهَا الدائمةِ للأراضي الباكستانية، بدعوى مطاردةِ مَنْ تُسَمِّيهم بالإرهابيين, و في نفس الوقت تُلَاطِفُ إيران، رغم أن أمريكا وإسرائيل والغرب جميعا يعتقدون أنّ إيران على وَشْكِ صناعة قنبلةٍ نووية.فما السبب .. هل إيران التي لم تمتلك السلاحَ النَّوَويّ بَعْدُ، أقوى من باكستان التي امتلكَتْه وتتفوق على إيران في صناعة الصواريخ متوسطةً وبعيدةَ المدى؟والإجابة لا يمكن أن تكون إلا بالإيجاب .. نعم إيران أقوى من باكستان, و لذلك تخافها الولايات المتحدة و أوروبا وإسرائيل، وصاروا يُلَاطِفُونها ويَسْعَوْنَ للتفاهم معها، أو احتوائِهَا بالطُّرُقِ السياسية، وليست العسكرية, و قد يظن ظانٌّ أن سبب قوة إيران ما تَمْلِكُهُ من أوراق اللُّعْبَة السياسية في كُلٍّ من لبنان والعراق وسوريا وفلسطين, لكن في الواقع، فإن هذه الأوراق رُغْمَ أنها من عناصر قُوَّةِ إيران، لكنها ليست جَوْهَر القوةِ، فجوهر القوة لأي دولةٍ ليس هو عناصر هذه القوة، والتي يمكن أنْ نُطْلِقَ عليها الموارد أو الإمكانات، ولكنه هو فلسفةُ استخدام عناصر هذه الموارد أو الإمكانات، و يمكننا أنْ نُلَخِّصَ الفلسفة الناجحة في العناصر التالية:
1- الإرادة وتحديد الهدف: والمقصود به أن تَرْغَبَ قوةٌ سياسيةٌ ما في تحقيق هدفٍ ما وتُحَدِّدُهُ، وهذا ما فعلته إيران، فهي حددتْ لِنَفْسِها هدفا ما في أن تصبح القوةَ الإقليميةَ الأعظمَ بالمنطقة، كمرحلةٍ أولى، تَصِلُ بعدها في المستقبل لأن تصبح قُوَّةً دولِيَّةً عظمى، وليس إقليمِيَّةً فقط. العديد من دول المنطقة ربما يملكون إمكاناتٍ أو موارِدَ أكبر مِمَّا تملكه إيران، لكنهم لم يَسْعَوْا لتوظيفها؛ ليتحوَّلُوا بها إلى قوةٍ عظمى إقليمية أو دولية. هناك مَنْ هو أغنى من إيران اقتصاديًّا, بل ودولةٌ كباكستان - وإن لم تكن غنية ماليًّا- فهي غنيةٌ استراتيجيًّا بسلاحها النووي وصواريخها بعيدةِ المدى، ذات التكنولوجيا الأعلى والأَدَقّ من إيران، بل أيضًا أعلى من غريمتها الهند، لكن باكستان لم تَسْعَ لِلَعِبِ دور قوةٍ عُظْمَى دوليةٍ أو إقليمية.. كُلُّ قَضِيَّتِها هي التوازن الاستراتيجي مع الهند.
2- التصميم و العزيمة: هو أمْرٌ حتمي لإضفاءِ الجِدِّيَّة على الهدف، ولتحقيقه أيضا, فدولٌ عربيةٌ كبرى كمصر، شرعتْ في عِدَّةِ فترات، منذ عهد جمال عبدالناصر، وحتى الآن، في تحصيل قدرات تسليحيةٍ استراتيجيةٍ مُتَقَدِّمَةٍ عبر التصنيع الذاتي، مما كان سيُمَكِّنُها من لعب دور سياسي إقليميٍّ ودولِيٍّ محوريٍّ، لكنها سَرْعَان ما تنازَلَتْ عن هذه الخطوات بسبب ضغوطٍ خارِجِيَّةٍ، مرةً من الاتحاد السوفيتي السابق، ومراتٍ من الولايات المتحدة وأوروبا, ومن هنا فَعَدَمُ تَحَلِّي الدولة بالعزيمةِ والتَّصْمِيم سيَجْعَلُها عُرْضةً للتنازل عن استخدام أوراق قُوَّتِهَا عند أول بادرةِ ضَغْطٍ.
3- الشجاعة: إذا صَمَّمَتْ دولةٌ ما على تحصيل موارد وإمكانات القوة، رُغْمَ الضغوط، فإنها ستتعرض لمخاطر عديدة, وليس بعيدًا عن ذاكرتنا جميعًا ما تعَرَّضَتْ له إيران نفسها من مخاطِرَ في مناسبات عدة منذ بداية سَعْيِهَا لتحصيل القوة، لكنها تَحَلَّتْ بالشجاعة في مواجهة هذه المخاطر, بعكس ما حدث مثلًا لليبيا عندما دَفَعَتْهَا المخاطر للتَّخَلِّي عن العديد من أسلحتها التقليدية، من صواريخ أرض أرض، كانتْ في واقع الأمرِ تُمَثِّل تهديدًا للغرب، أكبرَ من تهديد الصواريخ الإيرانية الآن، بسبب الموقع الجغرافي الليبي القريبِ من الغرب، عكس إيران, ولو كانت ليبيا تَتَحِلِّى بِقَدْرٍ كافٍ من الشجاعة، لما تَخَلَّتْ عن سلاحها، ولصارتْ قوتها في تنامٍ يومًا بعد يوم.
4- الفهم الصحيح للقواعد التي تَحْكُمُ لعبة السياسة: وكل هذه العناصر المذكورةِ لا تكفي لِتُعْطِيَ دولةً ما القُدْرَةَ الأمثلَ على استخدام موارِدِ قُوَّتِهَا السياسية والاستراتيجية، ما لم تكن قيادة هذه الدولة لديها الفَهْمُ الصَّحِيحُ لقواعد العمل السياسي, فالمقاومة الإسلامية في العراق وأفغانستان لديها الإرادةُ، والشَّجَاعَةُ والتصميم، والهدف الْمُحَدَّدُ، ربما بشكلٍ أفضل من إيران، كما أنّ مواردها السياسية تكاد تكون مناسِبَةً، لكنها لا تمتلك الفَهْمَ الصحيحَ لقواعد العمل السياسي، ولا الإدراكَ الكافِيَ لِمُجْرَيَاتِ العمل السياسي الدولي والإقليمي، مما أَضْعَفَهَا إذا قارنَّاها بإيران.
عبد المنعم منيب
كتبت هذا المقال لموقع الاسلام اليوم و تم نشره به اليوم كما تم نشره في العديد من المواقع الاسلامية.
موضوعات متعلقة
تعليقات
إرسال تعليق