" الداخلية " منعت العلاج و الرعاية الطبية عن المعتقلين السياسيين أيام مبارك .. من مشاهد أيام الإعتقال(6)

زنزانة مبارك في المركز الطبي من الداخل

كان مجال المرض مجالا واسعا في السجن نظرا للظروف الصعبة التى عاشها المعتقلون, ولقد رأيت هناك وعرفت كل أنواع الأمراض, جربت بعضها في نفسى ورأيت الباقي في غيرى.و كانت الرعاية الصحية في قطاع السجون في نهاية حكم الرئيس السادات و بداية حكم الرئيس مبارك في منتهى السوء سواء من ناحية الإعتمادات المالية المخصصة للعلاج أو من ناحية عدد ومستوى كفاءة الأطباء المتفرغين لقطاع السجون, ولكن مع كثرة الإضرابات عن الطعام التى قام بها المعتقلون السياسيون لتحسين أحوال السجون, ومع كثرة شكوى المعتقلين السياسيين للجهات القضائية والإعلامية ومنظمات حقوق الإنسان الدولية والمحلية فإن الأوضاع تغيرت فى عدة مجالات و منها المجال الطبى فى السجون. ولكن متى كان هذا التغيير ولماذا و ما هى حقيقته؟ربما كان التغير في كافة المجالات في السجون قد جاء تدريجيا لكن التغير في مجال الصحة والعلاج قد تغير بقفزة واحدة عام 1995م عندما إزداد عدد الذين ماتوا في السجون تحت التعذيب وتم تقييد ذلك كله على أنه موت بسبب الأمراض, كما حدث في نفس الوقت أن إنتشر مرضا الدرن والجرب على نطاق واسع جدا لدرجة ربما وصل فيها انتشار الجرب لنسبة 85% من بين مجموع جميع المعتقلين وقيل وقتها أن عددا قليلا من المعتقلين قد مات من جراء الجرب لكن لا أدرى مدى صحة هذه الرواية , وفي هذه الأثناء لمسنا تغيرا جذريا في مخصصات الدواء إذ إزدادت كميات العلاج الموجود بعيادة السجن بشكل كبير جدا كما تحسنت نوعية العلاج جدا إذ صارت هى هى نفس الأدوية الموجودة بسوق الأدوية بمصر بما فيها الأدوية غالية الثمن التى تنتجها شركات الأدوية الإستثمارية الكبرى بما في ذلك الفيتامينات والمضادات الحيوية غالية الثمن, هذا بعد أن كانت عيادة السجن في الماضى خاوية على عروشها من أية أدوية اللهم إلا من بعض الإسبرين وعينات ضئيلة من المسكنات ومضادات الإسهال من منتجات شركات الأدوية الحكومية.لكن كيف صار الحال بعد هذه النقلة النوعية الهائلة في هذا المجال؟ربما الإجابة الأوفى تكون في القصص التالية:كان الأخ (ن) معى في الزنزانة في سجن الوادي الجديد (الواحات) وكان كثير التردد على عيادة السجن لأنه مريض بمرض مزمن, وانضم لزنزانتنا وافد جديد أتى من سجن الفيوم هو الأخ (ش), ففوجئت ذات مرة أنه يقول للأخ (ن) لماذا لاتستغل خروجك للعيادة لمصلحة الأخوة وتفتح لنا خطا لشراء الأدوية من الممرضين والسجانيين العاملين بالعيادة؟ ولما أبديت تعجبى قال لى هذا يحدث في كل السجون في الفيوم والنطرون وكله, ولما إعترضت على صحة هذا الأمر قال لي هم يسرقونه على كل حال فنحن أولى به لأنه مخصص لنا أصلا.وبعد فترة قال الأخ (ن) للأخ (ش) "إن الممرض فلان مجرم جدا لقد علمت من زملائه أنه يضع صناديق الأدوية في سيارة إسعاف السجن ويخرج بها من السجن", وبعد فترة تبين لى أن الأخ (ن) اتفق بتوجيه من الأخ (ش) مع شخص ما بعيادة السجن على شراء أى شريط أقراص أيا كان نوعه بثمن خمسين قرشا للشريط, و كان يأتى بها للزنزانة وكانت بكميات كبيرة لأنه كان يشترى للعنبر كله, كما كانت من نوعيات غالية جدا, وكنت معترضا على ذلك بإعتباره يشجعهم على سرقة العلاج ليبيعوه لنا لكن كان الرأى الأخر يرى أن العلاج مسروق في كل الأحوال فأخذ المعتقلين له بسعر زهيد هو الأولى.و عندما ذهبت لمستشفى سجن ليمان طرة في 1998م وجدت نفس الشئ معتادا, لدرجة أن الذين تجرى لهم عمليات جراحية لم تكن تصرف لهم الأدوية اللاحقة للعملية كالمضاد الحيوى وغيره بل كان يتحتم عليهم إما شرائها من خارج السجن عبر أسرهم أويشترونها من القناة الخلفية المذكورة التى تتسرب عبرها أدوية مستشفى السجن.وحدث أيضا أن الأخ أحمد رشاد كان مقررا له في أواخر 1998م أن تجرى له عملية لمعالجة السقوط الشرجى بمستشفى ليمان طرة وعندما أجريت له العملية ودخل العنبر المخصص لما بعد العمليات جاء الممرض العامل بغرفة العمليات و قال وهو يشير لأحمد رشاد: "أنت المعتقل الذى عمل عملية الزائدة الدودية". فقال له أحمد: "أنا لم أعمل الزائدة إنما عملت عملية سقوط شرجى". فقال الممرض: "لا أنت لا تعرف شيئا أنت عملت عملية الزائدة"وفي اليوم التالى سأل أحمد الطبيب الذى أجرى له العملية عن سبب قول الممرض ذلك له. فقال الطبيب: "أنا وجدت الزائدة ملتهبة فقررت أن استأصلها, لأن كل شئ في بطنك مكانه تغير بعد العملية ولو تركتها وإحتجت أنت بعد ذلك لإستئصالها, فلن يعرفوا مكانها لذلك صممت على إستئصالها بالمرة".فقال له أحمد ساخرا: "و هل إستأصلت شيئا أخر يا دكتور؟"فرد الدكتور بجدية: "لا".ولازال أحمد رشاد معتقلا بلا محاكمة وفي السجن حتى اليوم وقد أجريت له عملية السقوط الشرجى ثلاث مرات وفشلت كل مرة حتى يأس من نجاحها مرة أخرى.وهناك عبدالسميع كريم الدين الذى أجريت له عملية البواسير أربع مرات وفشلت جميعها.وهناك إيهاب عبدالمقصود الذى حدثت له تلفيات شديدة في أجهزة جسمه الداخلية بفعل عمليات جراحية خاطئة أجريت له في مستشفى ليمان طرة, و أنا لا أتذكر الآن تفصيلات وملابسات موضوع إيهاب, لكن إيهاب حى يرزق و لديه مستندات تثبت ما حدث وينوى أن يلجأ بها للقضاء.وهناك العشرات من هذه القصص لكن فيما ذكرنا ما يكفي لإيضاح الصورة.والشائع بين المعتقلين السياسيين أن أطباء وزارة الداخلية ذوى الكفاءة يتم توظيفهم في مستشفى الشرطة بينما يتم تحويل الأطباء الأقل كفاءة إلى قطاع السجون.و لا يقتصر الإفساد و الإهمال والتسيب على العمليات الجراحية بل تعدى لغير ذلك فأنا أذكر الآن جيدا إسم الضابط الطبيب الذى نشر مرض الدرن في سجن الوادي الجديد (الواحات) ولذلك قصة كانت على النحو التالى:لم يكن لسجن الوادى الجديد طبيب دائم بل كان يتناوب عليه طبيب مختلف كل شهر فيمضى عليه بالسجن شهرا كاملا ثم يعود للسجن الذى جاء منه, وبدا واضحا أن الأطباء المتناوبين على سجن الوادي الجديد هم إثنا عشر طبيبا, أى أن كلا منهم يقضى بسجن الوادى الجديد (الواحات) شهرا واحدا كل عام.و جاء أحد الأطباء فى شهره فجمع جميع المصابين بمرض الدرن في زنزانتين بعنبر(12) ووفر لهم التغذية والعلاج اللازمين ثم إنتهى شهره وعاد للسجن الذى جاء منه تاركا كل مصابى الدرن معزولين في هاتين الزنزانتين.وجاء الطبيب التالى له في الدور و كان وقتها برتبة رائد و إسمه "أ . ع" فقام بتفريق جميع مرضى الدرن على مختلف زنازين السجن ومنع عنهم علاج وتغذية الدرن, رغم إحتجاج المرضى بأن ذلك سيؤدى لنشر عدوى المرض بالسجن كله لكن تم طبعا تنفيذ قرار الرائد الطبيب تحت تهديد القوة, وجاءت النتيجة سريعة بعد شهور قليلة, فعندما شعر طبيب أخر بأن الدرن منتشر بالسجن وقام بعزل المرضى في زنازين خاصة كانت الحصيلة مروعة لقد إحتاجوا أربعين زنزانة لمرضى الدرن فقط. والطبيب (أ . ع) ما زال حتى الآن يعمل بقطاع السجون وهو الآن برتبة عقيد أو عميد.والأمر لم يقتصر على ترك الأمراض لتنتشر بل وصل الأمر للتسبب في الموت وأذكر الآن الأخ إبراهيم عقلة (رحمه الله) وهو مدرس ثانوى من الشرقية, و أصيب بحمى في إحدى الليالى بسجن الفيوم وتم نقله إلى مستشفى السجن حيث إتصل الممرض بطبيب السجن الذى كان نائما في إستراحة السجن, و في الفترة التى سبقت قدوم الطبيب قام الممرض بإرسال إِشارة عاجلة لترحيل الأخ إبراهيم عقلة إلى مستشفى الفيوم العام, وذلك للإشتباه في الحمى الشوكية لكن الطبيب لما جاء و رأى الإشارة التى أرسلها الممرض قال له: "يا إبن ال...............إنت عامل نفسك دكتور" و ألغى الإشارة ونهر الأخ إبراهيم عقلة وشتمه ووبخه وتركه نهبا لألامه, لكن آلام الأخ إبراهيم لم تستمر طويلا إذ فاضت روحه مع شروق شمس النهار التالى.و نفس الشئ حصل في نفس السجن ونفس المستشفى ونفس الشهر مع الأخ أحمد عبدالمنعم (طالب) من شبرا الخيمة, لكن مع طبيب أخر كما أن الممرض لم يجرؤ هذه المرة على محاولة إرسال إشارة ترحيل, وفاضت روح أحمد عبدالمنعم رحمه الله تعالى بعد صراع مرير مع آلام الحمى التى يبدو أنها كانت حمى شوكية أيضا.وهذه الحالات كلها التى ذكرناها أو سنذكرها في هذا المقال هى على سبيل المثال لا الحصر.و لابد أن أذكر حالة الدواء في سجن أبي زعبل شديد الحراسة حيث يأتى لعيادة السجن كل يوم طبيب أخصائى في أحد التخصصات أو إثنان, ويكتب العلاج اللازم ثم لايصرف الممرض منه شيئا بحجة أنه غير موجود أو يصرف كمية ضئيلة جدا بحجة أن هذا هو الموجود فقط, ثم إن هؤلاء الأخصائيين مشكوك في كفائتهم, والذى يظهر ذلك ما حدث مع الأخ المهندس خالد طلخان (و كان مديرا عاما لأحد فروع شركة كبيرة من شركات القطاع العام) فقد لاحظت أنه أحضر أنواعا عديدة و غالية من المضادات الحيوية عن طريق أسرته في الزيارة فسألته عن السبب فأخبرنى أن طبيب السجن قال له أن عنده إلتهاب في البروستاته ويحتاج لمضادات حيوية قوية غالية غير موجودة في السجن, ولقد ظل يتناول هذه الأدوية بإنتظام لأكثر من عامين ومع ذلك آلامه تزيد لا تقل, ثم أثناء عرضه على طبيب أخر بنفس السجن قال له الطبيب من الحمار الذى قال لك أن عندك إلتهاب في البروستاتا أنت عندك إلتهاب في القولون وها هو القولون منتفخ, وقرر له علاجا جديدا ومع ذلك زادت الآلام إلى أن إستحال على المهندس خالد الصلاة واقفا وصار يصلى قاعدا ولايمشى إلا بمساعدة أخر كما صار يتوجع وجعا شديدا و لولا أنه كان رجلا صبورا لصرخ ليل نهار من شدة الألم ومع ذلك كان إنتفاخ بطنه يزيد و كان يشعر بأوجاع شديدة تكاد تعصف بعظامه, ولما عملنا مشاكل واسعة مع كل أنواع ضباط السجن من مباحث لقطاع سجون لأمن دولة لإدارة طبية لإدارة منطقة............كل ذلك بهدف نقله لمستشفى خارجية على نفقته الخاصة, وحينئذ تم عرضه على طبيب أخر بالسجن فكان تشخيصه أنه مريض بالدرن في العظام, و في اليوم التالى تم نقله لمستشفى ليمان طرة التي حولته لمستشفى القصر العينى التى أجرت له عدة تحاليل, ونظرا لتأخر مندوب مستشفى ليمان طرة فى إحضار نتيجة التحاليل فإن إبن المهندس خالد ذهب لأخذ النتيجة ففوجئ بأن التشخيص هو سرطان, وعاد إبن المهندس خالد بسرعة لليمان طرة كى يقرروا لأبيه العلاج اللازم فوجد أباه المهندس خالد قد مات, رحمه الله رحمة واسعة.ولا يمكن أن أنهى الكلام عن النواحى الطبية دون أن أذكر الحالة التى عليها مستشفى ليمان طرة منذ سنوات حيث يتولى إدارتها منذ فترة عميد طبيب (م . ش) ويديرها بطريقة عجيبة جدا رغم أنها أهم مستشفى في السجون سواء للمعتقلين السياسيين أو الجنائيين, فرغم الأموال الضخمة المرصودة من قطاع السجون للإنفاق على الدواء فيها فإنها أسوأ مستشفيات السجون كلها فيما تصرفه للمعتقلين والمسجونين السياسيين والجنائيين من الدواء من حيث كميته الضئيلة جدا ومن حيث نوعيته الرديئة جدا كي يكون رخيصا جدا, والأعجب من ذلك أنهم يقيدون في الدفاتر أسماء أدوية غالية ثم يسلمون للمعتقل العلاج البديل الرخيص ويجبرون المعتقل على التوقيع بالإستلام على ماهو مكتوب وليس ماتم تسليمه و لو رفض يقومون هم بالتوقيع بإسمه وهذا حدث معى كما حدث مع غيرى مرارا أمامى, و من ناحية ثانية فهى المستشفى الوحيدة فى كل السجون التى تعمل التقارير الطبية للمعتقلين دون أن تقوم بفحصهم طبيا بل دون أن تعرفهم أنهم مطلوب لهم تقارير سواء كان الطالب منظمة من منظمات حقوق الإنسان أو كان الطالب مدير مصلحة السجون أو حتى لو كان الطالب وزير الداخلية نفسه, ولو كانوا يكتبون هذه التقارير من واقع الملف الطبي للمعتقل أو المسجون لهان الأمر لكن ما يجري هو كتابة تقرير طبي ملفق يقول أن المعتقل بحالة مستقرة وعنده متاعب بسيطة ويتلقى أعلى مستوى من العلاج بليمان طرة وهذا حدث معى و مع غيرى و ما زال يحدث حتى الآن, كما أن مستشفى ليمان طرة حازت قدم السبق كأسوأ مستشفيات السجون في منع الحالات الخطرة من الإنتقال للمستشفيات الخارجية كالقصر العينى وغيره بما في ذلك حالات الإشتباه في السرطان والصدر وغيرهما, والذي يشتكى ويعمل مشاكل عبر القضاء و الإعلام يقوموا بنقله لتلك المستشفيات بعد تأخيره عن مواعيده المقررة بما يفوت عليه الفرصة للعلاج.و إذا كان كل ذلك عجيبا فالأعجب منه أن عشرات الشكاوى قد تقدم بها المعتقلون للمسئولين الأعلى بمصلحة السجون ضد مدير المستشفى بلا أى جدوى بل مرة شكى الأخ إبراهيم عبدالبديع و الأخ سيد عباس لمدير مصلحة السجون نفسه (أو نائبه لا أذكر تحديدا الآن) وأعطوه شكوى مكتوبة أثناء مروره بالمستشفى فأعطاها فى الحال إلى اللواء مدير المنطقة و الذى ناولها على الفور دون أن يفتحها إلى العميد (م . ش) مدير المستشفى الذى كان يقف إلى جواره, فقال الأخوة لمدير المصلحة نحن نشكوه إليك وأنت تعطى له الشكوى ليحقق فيها؟ فقال لهم: هذا هو الترتيب الإدارى الصحيح.و لا شك أن مقالى هذا يسجل شهادتى التى ترد على البرامج الدعائية التى عادة مايسجلها الإعلام الحكومى بشأن مستشفيات السجون, علما أنهم لا يسمحون لأجهزة التصوير التليفزيونى بالدخول إلا بعد ترميم المكان و زخرفته وتفريغه من أى معتقل أو مسجون ثم يحضرون عددا من المسجونين الجنائين من عملاء مباحث السجن و يلبسونهم ملابس جديدة و يوزعون عليهم الأدوار المقررة لهم ليظهروا بها أمام التلفزيون ثم بعد ذلك يسمحون لفريق التلفزيون بالدخول وقد حدث هذا أمامى في مستشفى ليمان طرة كما حكاه لى الكثيرون ممن رأوه في سجون أخرى.
عبدالمنعم منيب
 تم نشر هذا المقال في المدونة القديمة و في جريدة" الدستور"المصرية 26 ديسمبر 2007 و كان هو الحلقة السادسة من 16 حلقة نشرت تباعا بشكل أسبوعي منذئذ شرحت مشاهداتي للأوضاع الاجتماعية و النفسية و الاقتصادية للمعتقلين السياسيين في سجون مبارك طوال فترة اعتقالي التي استمرت من 21 فبراير 1993م و حتى 1 أغسطس 2007م.


موضوعات متعلقة:

تعليقات