مبارك حرم المعتقلين السياسيين من الطعام و الهواء و الماء و الدواء الا قليلا ... من مشاهد أيام الإعتقال (4)
زنزانة الرئيس المخلوع حسني مبارك التي احتجز فيها طوال فترة محاكمته كما نشرتها بعض وسائل الاعلام |
و تأتى أهمية إعادة إعداد الطعام من كون مطبخ السجن لا يحسن إعداد الطعام المقدم من السجن إلى المعتقلين والمساجين سواء السياسيين منهم أو الجنائيين و ذلك لسوء الإدارة و الإهمال المتعمد و إهدار الموارد و أيضا بسبب الإعتماد على مساجين جنائيين لإعداد الطعام و هم دائما غير مدربين و غير مهرة و غالبا لا يراعون قواعد الإتقان و لا النظافة, فيحتم ذلك كله إعادة إعداد الطعام بالزنزانة فيما كنا نطلق عليه تحسين الطعام.
المالى المتعلق بمقررات الطعام جعلها في أغلب الأحيان أقل في كميتها من الكمية اللازمة لسد رمق المعتقل فأوجب ذلك إدخال تعديلات على الطعام ليزيد حجمه فيما كنا نطلق عليه تعديل الطعام.أما عملية التحسين المذكورة فكانت تشمل تسخين الطعام بعد تنظيفه و أحيانا يتم غسله مثل أن يكون بطاطس أو باذنجان أو كوسة و يكون عادة قطع كبيرة مطبوخة بقشرها فنقوم بإنتشالها من مرقتها و نقشرها و نغسلها ونقطعها إلى قطع أصغر ثم نعمل لها مرقة أخرى, و نلقى بمرقتها الأصلية في دورة المياه.
أما عملية التعديل فتكون بإضافة أشياء لهذا الطعام كى يزيد, وهذا يختلف من وقت لأخر حسب الظروف, فعندما تكون الأوضاع ميسورة من حيث حسن المعاملة والسماح بدخول أطعمة من خارج السجن على نفقتنا فإن عملية التعديل لزيادة الطعام تتخذ شكل إضافة طعام من نفس جنس الطعام الموجودأو من نوع مناسب له كما إن التحسين نفسه يتم بإضافة أشياء ذات قيمة للطعام مثل التوابل و بعض اللحم أو نحو ذلك أما عندما تكون الأوضاع غير مناسبة أى عندما يوجد منع أو تضييق في مجال دخول الطعام من خارج السجن فإن عملية التحسين والتعديل تتخذ شكلا أكثر تواضعا لدرجة أن العمليتين كانتا في كثير من الأوقات تقتصران على إستخدام الماء في الغسل والتنظيف أو النقع في الماء لتقليل الملوحة الزائدة الموجودة بالطعام وبإلقاء هذا الماء نكون قد حسنا الطعام ثم نأتى لعملية التعديل كى نزيد كمية الطعام و كانت قاصرة أيضا على إضافة الماء فمثلا بالنسبة للجبن نذيب قطعة جبن وزنها يتراواح بين 50 و 100 جرام في كمية ماء لنصنع منها ماءا أبيضا كالشرش يملأ ثلاث أو أربع أطباق ثم يقدم كل طبق لمجموعة من المعتقلين يتراوح عددهم بين أربعة و سبعة ليأكلوه بالخبز.
ونفس الشئ كان يجرى بشأن الحلاوة الطحينية بنفس الطريقة حيث يتم إذابتها في الماء بنفس المقادير المذكورة و كذا الفول والعجوة والعدس.
وللقارئ أن يتعجب من ذلك و يتسائل كيف عشانا سنوات طويلة على هذا الطعام القليل الحقير لأننى أنا نفسى أتسائل عندما أتذكر هذه الأيام هذا السؤال كيف عشنا بهذه الطريقة و كيف تحملنا هذه الأوضاع و لكن رحمة الله وسعت كل شئ, ولو لم أعش مثل هذه السنين لما إستطعت أن أتخيل وقوع مثل هذه الأحداث بمثل هذه الطريقة.
لكن هذا لا يعنى أننا كنا نتمتع بصحة جيدة بل بالعكس, فأنا شخصيا أخر مرة صمت رمضان في هذه السنين كنت راقدا طول النهار و لا أكاد أقوم إلا للصلاة وقلت لنفسى لو لم تتغير الظروف فلن أستطيع صيام رمضان المقبل بل ربما مت قبل هذا بسبب الجوع الذى كنا نعيشه.
و في غير رمضان لم أكن أستطيع إستجماع قدراتى العقلية لمراجعة القرآن من الذاكرة أو بعض متون كتب العلم أو الأحاديث إلا بعيد إستيقاظى من نوم إستغرق عدة ساعات و يكون إستجماع هذا التركيز العقلى قاصرا على ساعة واحدة ثم أحتاج بعدها للنوم مرة أخرى لعدة ساعات و هكذا.
و أيا كانت حالتنا الصحية فقد كانت الحياة تسير و كنا ننظم حياتنا وفقا لظروفنا فى محاولات متفائلة جدا لتحسين هذه الحياة.
ومن هذه النظم التى سارت عليها حياتنا في المعتقلات أن يتولى إعداد الطعام وتقديمه شخص له معرفة ما في هذا المجال و أن يستمر فى عمله هذا يوميا إلى ما شاء الله فلا ينعزل إلا إذا إختار أفراد الزنزانة عزله أو إختار هو أن ينعزل أو تم نقله إلى زنزانة أخرى, وكان هذا الدور مستقرا لحد كبير لقلة من لديه القدرة والصبر وطاقة العمل اللازمة للقيام بهذا الدور لأنه يقوم بخدمة الناس كل يوم في هذا المجال كما أنه قد يتعرض لإنتقادات أو إقتراحات تفوق طاقة الكثيريين على التحمل فضلا عن أنه يعمل كل يوم لعدة ساعات يتعطل فيها عن تلاوة القرآن أو تلقى العلم ونحو ذلك من الأنشطة التى كانت سائدة في الزنازين و يسمى صاحب هذا الدور أو هذه الوظيفة باسم مسئول المطبخ, كما يقوم بمساعدته شخص يتغير كل يوم و هذا الدور المساعد يسمى صاحبه " نبطشى" ويلاحظ إختلاف هذه التسمية بين المعتقلين و المسجونين السياسيين من جهة و بين المعتقلين والمسجونين الجنائين من جهة أخرى حيث أن معناها لدى السياسيين هو ما ذكرناه, أما معناها لدى الجنائين فهو مرادف لمعنى رئيس الزنزانة و هو عند الجنائيين عادة ما تعينه إدارة السجن أو تحديدا رئيس مباحث السجن كى يعمل على إلزام الزنزانة بتعليمات ضابط المباحث و يكون في العادة جنائى ذو عتو في الإجرام أو كما يقال في العامية المصرية "فتوة" حتى يتسنى له السيطرة على عامة المساجين وهذا كله غير موجود بهذه الصورة بالنسبة للمعتقلين والمسجونين السياسيين.وبالإضافة لذلك فقد كان المعتقلون السياسيون الإسلاميون يختارون شخصا فيما بينهم ليكون بمثابة رئيس للزنزانة و كان هذا الرئيس يجرى إنتخابه بالأغلبية في حالة ما إذا كان نزلاء الزنزانة من غير أعضاء الجماعة الإسلامية أو كان أعضاء الجماعة الإسلامية قلة من بين نزلاء الزنزانة أما إن كان أعضاء الجماعة الإسلامية أغلبية فإنهم يعينون رئيس الزنزانة بأمر مباشر يصدره رئيس الجماعة الإسلامية في العنبر, و مسئول الجماعة الإسلامية بالعنبر يكون معينا من قبل مسئول الجماعة الإسلامية بالسجن والذى يكون معينا بدوره من قبل القادة التاريخيين للجماعة الإسلامية و هم الذين يطلق هم مجلس شورى الجماعة الإسلامية وهؤلاء لهم حق القيادة المطلق بسبب تأسيس و إدارة الجماعة الإسلامية.
ويسمى رئيس الزنزانة دائما مسئول الزنزانة و يتولى مسئول الزنزانة إن كان معينا من الجماعة الإسلامية تنفيذ قرارات مسئول العنبر و إدارة شئون الزنزانة وفقها بينما إن كان مسئول الزنزانة قد اختير بالأغلبية فإنه يتولى إدارة شئون الزنزانة بتنفيذ ما إتفق عليه أغلبية نزلاء الزنزانة بشأن سائر أمور المعيشة من الأكل و الشرب والنوم و الإستحمام و غسل الملابس و نحو ذلك كمواعيد إطفاء النور و إضفاء الهدوء و الدروس العلمية إن وجدت و الصلاة سواء الصلواة الخمس أو قيام الليل و غير ذلك.
و كان من أهم مهام مسئول الزنزانة (رئيس الزنزانة) الإشراف علي مسئول المطبخ و على قيامه بمهامه بشكل جيد و فعال و كذا الإشراف على النبطشية (أى مساعد مسئول المطبخ) و كان هذا النبطشى بجانب مساعدته لمسئول المطبخ فإنه يقوم ببعض أعمال النظافة بالزنزانة مثل كنس الزنزانة وغسل أرضية الركن الداخلى للزنزانة وهو الذى يتم تجهيز الطعام به و خزن بقايا الطعام إن وجدت بقايا كما يغسل الأوعية (الأطباق و العلب) إن وجدت أوعية أصلا.
و كان كثير من المعتقلين يتسابقون للقيام بهذا الدور تطوعا في غير دورهم, و كان يوجد سباق في حجز أسابيع و أيام شهر رمضان من قبل دخول الشهر للقيام بهذا الدور تطوعا كأنه صدقة في رمضان, و كانوا نشطاء في هذا, و مع ذلك و بجانبه كانوا ينشطون في تلاوة القرآن جدا في رمضان و أذكر أحد الأخوة اسمه (محمد ع) أصر أن يقوم بدور النبطشى أخر ثلاثة أسابيع في رمضان, و كان بجانب ذلك يتلو أكثر من 15 جزءا من القرآن يوميا.كما أذكر أن أحد الأخوة واسمه (جلال ع) كان مسئولا للمطبخ في زنزانة و تطوع أن يقوم بجانب ذلك بدور النبطشى طوال شهر رمضان بشأن السحور, فكان ينام بعيد صلاة العشاء مباشرة ثم يستيقظ بعد الحادية عشرة مساءا فيصلى قيام الليل إلى نحو الثانية صباحا, ثم يقوم يجهز السحور ثم ييقظنا جميعا حتى نتسحر قبيل أذان الفجر, وذلك دون مساعدة من أحد بعكس ما يقتضيه نظام الزنازين حسبما ذكرنا من مساعدة النبطشى له في عمله في الطعام.
ورغم أن نظام النبطشية كان نظاما ثابتا و دوريا إلا إنه كان له إستثناءات عديدة ذات دوافع إنسانية, فمن ذلك أنه جرى العرف فى أكثر الزنازين أن من تعدى عمره أربعين عاما فإنه لا يقوم بدور النبطشية و هذا في أول الإعتقال ولكن بعد ذلك مع طول المدة و تقدم الجميع في العمر بدأ يتلاشى هذا الإستثناء.
كما كان يعفى منها المرضى المزمنون نهائيا.أما أصحاب الأمراض العرضية فكانوا يعفون منها إلى أن يتم شفاؤهم نهائيا.
وعندما عملت إضرابات عن الطعام لمدة طويلة كان الأخوة المعتقلون معى في الزنزانة يغسلون لي ملابسى و يساعدوننى على دخول الحمام و يحملوننى مسافة طويلة إلى مبنى مستشفى السجن أو مبنى إدارة السجن عندما كانت الإدارة تفاوضنى لفك الإضراب, و كنت أضربت عن الطعام إضرابات عدة بلغ أحدها خمسين يوما و ثان ثلاثين يوما و أخر 25 يوما.
وعندما كنت أمتحن في العام الماضى أصر أحد المعتقلين على تولى إعداد الطعام لى و غسل الأطباق لى حتى أنتهى من الإمتحان لا سيما أنى وقتها كنت مريضا بالإنزلاق الغضروفى, و حالتى صعبة جدا لعدم توافر أى علاج أو رعاية صحية بالمستشفى التى كنت مقيما بها (مستشفى ليمان طرة) و كان هذا الأخ المعتقل الذى أصر على ذلك يكبرنى بأكثر من عشر سنوات.و لم يك التكافل بالمال أو بالجهد بين المعتقلين في أوقات التضييق والشدة فقط بل إستمر عندما تحسنت المعاملة بالسجون, فعندما سمحوا بدخول الثلاجات وبعض الأجهزة الأخرى (كالتلفزيون و الراديو والغسالة الكهربائية) و كان طبعا أهم هذه الأجهزة الثلاجة حيث يمكننا فيها خزن الطعام من يوم الزيارة لعدة أيام أخرى لا تأتى فيها زيارة الأسرة, و حينئذ تبرع عدد من أثرياء المعتقلين و أحضروا على نفقتهم الخاصة عددا من الثلاجات الضخمة بحيث تكفى كل ثلاجة عددا من الزنازين و قد أحضروا أعدادا تكفى السجن كله و حدث ذلك أمامى في معظم السجون, كما البعض بالتبرع بمجهوده بجانب التبرع بماله في ذلك الشأن و على سبيل المثال فقد كان هناك طبيبا ثريا بسجن إستقبال لم يكتف بإحضار عدة ثلاجات على نفقته بل بعد ذلك عندما جاء فصل الصيف إشترى عدة ثلاجات أخرى (غير الأولى التى سبق و اشتراها) و خصصها لعمل ثلج في أكياس و قام بتوزيع أكياس الثلج هذه بنفسه على جميع الزنازين بالتساوى, و كان يعد أكياس الماء بنفسه و يضعها في الثلاجات, و قد تطوع إثنان أخران لمساعدته في ذلك.و من الجوانب التى جرى فيها التعاون بين المعتقلين في كل الزنازين جانب النوم حيث أن الغرفة لا تتسع إلا لخمسة أو ستة على أقصى تقدير لكن وصل تعداد نزلاء كل منها ما بين 20 إلى 60 نزيلا, ولم يكن العدد يقل في أحسن الأحوال عن 15, ولزم لذلك التعاون في ترتيب أوضاع النوم, فكنا كلما قل العدد ألى ثلاثين أو أقل كلما أمكن النوم متلاصقين لكن مع إختلاف إتجاه الرؤس و كان يتحتم حينئذ توزيع و تحديد أماكن النوم بمعنى تحديد المساحة المسموح لكل شخص أن يشغلها و لايتعداها بأى حال و كان يتم قياس ذلك بالسنتيمترات (غالبا بالأصابع أو بخيط أو نحو ذلك).
وهناك أماكن تؤذى النائم فيها مثل بجانب و أمام دورة المياه بسبب الروائح الكريهة المنبعثة منها و مثل خلف الباب بسبب البرد القارس المنبعث من حول حلق الباب في الشتاء.
ولكنها أمور نسبية و كان هناك دائما من المعتقلين من يتطوع للنوم في الأماكن الغير مرغوب فيها أو التى بها أذى كى يفسح لبقية إخوانه الأماكن الأخرى.
و نظرا لأن كل الزنازين بكل السجون تم تصميمها بشكل جعلها سيئة التهوية بحيث أن قليل من الهواء هو الذى يتسرب إليها عبر فتحات صغيرة بالقرب من السقف (و تسمى زورا شبابيك) فإننا عانينا كثيرا من الحر في كل السجون ابتكر المعتقلون فكرة التهوية ببطانية, في أول الأمر كان اثنان من المعتقلين يمسكان ببطانية مطبقة نصفين و يحركانها جيئة و ذهابا لتحدث تيارا من الهواء و نظرا لأن ذلك يتطلب جهد إثنين فقد تم تطوير الأمر بربط طرف البطانية بفتحة الشباك بينما يقوم معتقل واحد بالإمساك بالطرف الباقى و يهزها جيئة و ذهابا للتهوية, و جرى ذلك في كل السجون بالصيف و جرى إجراء تعديلات مختلفة على طريقة ربطها وهزها حتى يكون هزها أسهل و أقل جهدا.
و أذكر عندما كنت في سجن الوادى الجديد أن الحر هناك كان لا يطاق و كان معنا أخ معتقل اسمه نبيل فتحى فكان يتطوع يوميا بالتهوية عبر البطانية بين الظهر و العصر بسبب شدة الحر وبسبب كسل بعض الناس عن التهوية في هذا الوقت.وذات مرة إستيقظت في نصف الليل فوجدت نبيل مستمر في التهوية والناس كلها نائمة فقلت له: يا نبيل لماذا لا تنام؟ قال لى: الجو حار جدا و لو تركت التهوية فإن الإخوة سيستيقظوا و لن يمكنهم النوم بسبب الحر فسأظل في التهوية حتى يأخذوا راحتهم من النوم.
وفعلا كان هذا اليوم شديد.
و نبيل هذا مازال معنقلا حتى الآن منذ 15 عاما فرج الله كربه.
عبدالمنعم منيب
تم نشر هذا المقال في المدونة القديمة و في جريدة" الدستور"المصرية 12 ديسمبر 2007 و كان هو الحلقة الرابعة من 16 حلقة نشرت تباعا بشكل أسبوعي منذئذ شرحت مشاهداتي للأوضاع الاجتماعية و النفسية و الاقتصادية للمعتقلين السياسيين في سجون مبارك طوال فترة اعتقالي التي استمرت من 21 فبراير 1993م و حتى 1 أغسطس 2007م.
موضوعات متعلقة:
موضوعات متعلقة:
تعليقات
إرسال تعليق