في حادثة مقتل خالد سعيد بأحد أقسام الشرطة بالاسكندرية مؤخرا تسائل كثيرون عن سبب تعنت حكومة الحزب الحاكم بشأن التحقيق مع المتهمين بالمسئولية عن مقتله و تقديمهم لمحاكمة عادلة, و قال المتسائلون: "حتى لو كان بعض المخبرين مدانين في هذه القضية فلماذا امتنعت الحكومة حتى الآن عن التضحية بهم من اجل تبييض وجهها اعلاميا و لن تخسر شيئا فإنها ستجد بسهولة بدلاء عن الجلادين الذين ستضحي بهم" على حد تعبير هؤلاء المتسائلين المتعجبين من موقف الحكومة, و في الواقع فإن موقف الحكومة يبدو غريبا بالنسبة للنظرة العابرة لكنه ليس غريبا إذا نظرنا له في اطار فهم سليم لفلسفة الديكتاتورية لأن حكومة الحزب الحاكم هي نموذج صادق لكل معاني الديكتاتورية و الاستبداد.
تحتاج الديكتاتورية لمن يحميها من المعارضة و من كل ضحاياها, و لابد أن يكون حراس الديكتاتورية و الاستبداد ذوي ولاء شديد للحكومة الديكتاتورية ويدينون لها بطاعة عمياء لا نهاية لها, حتى لو كان القرار الصادر لهم بقتل أو تعذيب او اهانة أخا الحارس أو أباه, و كي يصنع الديكتاتور هذا الولاء و هذه الطاعة لدى حراس النظام الديكتاتوري لابد أن يخلق لديهم المصلحة في حراسة النظام الديكتاتوري و من ثم العمل على استمراره و بقاءه, خلق هذه المصلحة عبر العقيدة ممكن إن كان للديكتاتوية الحاكمة عقيدة أو اطار فكري واضح و مقنع لا سيما لو تم تدعيم ذلك بمنح هؤلاء الحراس جانبا من المال و النفوذ, لكن لو لم يكن لدى الديكتاتورية اطارا فكريا فلن يكفى منح المال و النفوذ لكسب ولاء الحراس, إذ قد يعارض الديكتاتورية من يمكنه بذل مالا أكثر أو من يمكنه تقديم فكر يتغلب به على الرغبة في المال, و من هنا فلابد أن تغذي الديكتاتورية في نفوس حراسها شهوة التسلط و الاستبداد و الديكتاتورية و الاستكبار و حب الانتقام و التلذذ بقهر الأخرين ممن هم خارج منظومة السلطة الديكتاتورية لأن هذه الشهوات أقوى من أي شئ اخر و لا يمكن لأحد أن يتيحها سوى الحكومة كما ان هذه الشهوات يمكنها معارضة أي فكر أو عقيدة و لنا عبرة في فرعون الذي عارض هو و قومه نبي الله موسى لا لشئ الا لشهوة الاستكبار بل إن ابليس عارض الله تعالى ذاته بكل وقاحة لمجرد الاستكبار, و لذلك كله فإن حكومتنا الديكتاتورية لا يمكنها ايقاف ممارسات القمع و الاستكبار و التعذيب الوحشي التي يقوم بها جزء من منظومة حراستها لأنها لو اوقفتها فإنها توقف الدم الذي تضخه في عروق منظومة القمع التي تنفذ اوامر الديكتاتورية و تحميها و من ثم ستضمر هذه المنظومة و تنزوي و تصير حكومة الحزب الحاكم ديكتاتورية بلا أنياب, فاستكبار و استبداد منظومة حراسة الديكتاتورية في بلدنا و حبها لقمع الآخرين و إهانتهم و تعذيبهم هي ضمانة ولائها للحزب الحاكم و من هنا فالتساؤل "لماذا لا تضحي الحكومة ببعض صغار الحراس من رجالها في هذه القضية التي أخذت حيزا كبيرا من اهتمام الرأى العام كي لا تورط نفسها اعلاميا على الأقل؟" اجابته بسيطة جدا و هو أنها لو فعلت ذلك لقيدت الوحش الموجود داخل كل حارس للديكتاتورية و الذي لا بد أن يكون مطلقا من كل قيد.. و حش الاستكبار و الاستبداد و التلذذ بقهر الآخرين, إذا عاقبت الحكومة قتلة "خالد سعيد" العقوبة العادلة و المناسبة لحجم و طبيعة جرمهم فإن كل واحد من حراس الديكتاتورية بعد ذلك سيتردد مليون مرة قبل أن يرفع يده ليصفع متظاهر أو معارض سياسي, و هذا ما لا يمكن أن يحدث في ظل نظام حكم ديكتاتوري.
البعض يتخيل أن خالد سعيد تم قتله بسبب نشره فيديو يفضح قسم الشرطة, لكنني أتخيل شيئا آخر, لقد تم قتل خالد سعيد لمجرد انه عارض المخبرين الذين جاءوا للنت كافيه الذي جلس فيه و أخذوا يتحققون من هوية الجالسين فيه بقدر لا بأس به من الاستكبار على الموجودين و اهانتهم و تحقيرهم , خالد سعيد رفض الاهانة و طالب بحقه كانسان , كان الأمر غريبا على مخبرين و ضباط اعتادوا اهانة الشعب دون أن يفتح احد فاه معترضا, كان لابد ان يصبح خالد سعيد عبرة لكل الموجودين لئلا تنتقل عدوى الكرامة الانسانية لأفراد الشعب الموجودين في هذه الواقعة فتم الامعان في اهانة خالد سعيد في النت كافيه لكي يعلم هو و الجميع أن المطالبة بالكرامة الانسانية تأتي بنتيجة عكسية فلا يطالبن بها أحد مرة أخرى, لكن خالد سعيد أصر على حقه, فانفلتت أعصاب السادة الحراس من فرط هذا التصميم على الكرامة الذي لم يألفوه في بلدنا المحترم فانطلقوا يعذبون خالد سعيد بلا أدني عقل فلقى الرجل مصرعه فأفاق السادة الحراس على حقيقة أنه من المهم اخفاء معالم الجريمة فتم تلفيق تمثلية لفافة البانجو و تلفيق التهم لشهيد الكرامة الانسانية.
و هنا تسائل البعض عن الغرض من محاولة تلويث سمعة قتيل الشرطة خالد سعيد بكونه مجرم سابق و نحو ذلك, و هذا مرتبط بفلسفة المجتمع الظالمة و هي فلسفة العقاب بالأساليب الهمجية فمن اتهم بجريمة صار في عرف الكثيرين مدانا و يجوز عقابه بلا قانون و لا محاكمة و لا فرصة للدفاع عن نفسه.
و ما جري في قضية قتيل الشرطة يتسق مع فلسفة التعذيب الموجودة في بلادنا التي هى حراسة الديكتاتورية تلك الحراسة التي لا تنطبق فقط على حراستها ضد الأعمال المادية المعارضة من مظاهرة أو اضراب أو نحوه بل و حراستها من الأفكار التي تخصم من رصيد الاستبداد و الديكتاتورية كفكرة الكرامة الانسانية أو حرية التعبير أو حتى مجرد أن تقول "لا" للحاكم أو حراسه.
عبدالمنعم منيب
تعليقات
إرسال تعليق