كيف واجه المعتفلون السياسيون سياسة التعرية و التجويع في سجون مبارك .... من مشاهد أيام الإعتقال(3)

 وراء القضبان (صورة أرشيفية)
لا شك أن لفترة الإعتقال جوانب كثيرة سياسية و إجتماعية وثقافية و دينية و قانونية و هذا الجانب الأخير يشمل مجال حقوق الإنسان ولكننا في هذه السلسلة من المقالات إقتصرنا على الجوانب الإجتماعية والثقافية فقط لأسباب لا تخفى على حصافة القارئ الكريم.
و أول مشهد إجتماعي يصادفه المعتقل ما يتعلق بالطعام الذى يصرفه السجن بشكل يومى, وهو عبارة عن مقررات محددة يتم صرفها مرتين في اليوم حسب نوعية المعاملة, فعندما تكون المعاملة حسنة يجرى صرف أولهما في الصباح الباكر وتحوى مقررات الإفطار وعادة تكون فول أو عدس ثم يتم صرف الثانية بعد الظهر وتشمل أرز مسلوقا وخضار مطبوخا بالإضافة لخس أو جرجير أو بصل نئ أو نحو ذلك كما تشمل جبن و حلاوة طحينية أو مربى و ثلاثة أرغفة وهذا كله يومى, و يضاف لذلك في يومين في الأسبوع لحم مستورد مسلوق أو بيض مسلوق أو دجاج مسلوق ويكون ذلك في يومى الإثنين والخميس ويضاف أيضا في يومى الثلاثاء والجمعة بيضتن مسلوقتين لكل معتقل أو مسجون.
وفي الواقع فإن هذه المقررات لم تكن بهذا التنوع ولا بهذه الكميات ولكن جرى إصلاح وتحسين لهذه المقررات على مراحل متعددة إستغرقت الستة وعشرين عاما الأخيرة وكان أهمها وأبرزها في صيف 1998م, وذلك بسبب ضغوط الجهات المهتمة بتحسين أوضاع المعتقلين والمسجونين و لكن نقطة الضعف في هذا النظام هو كيفية التنفيذ حيث أنه يتعرض للتبديد والتبذير من يد المتعهد المدنى إلى يد إدارة السجن إلى يد موظفي المخازن إلى يد موظفي المطبخ ثم إلى يد الحراس ثم إلى يد العمال (مسجونون جنائيون في العادة) المسئولين عن توصيله ليد المعتقلين والمسجونين, و طبعا الكل يعرف النكته التى تقول نهايتها أن الرئيس يسلم عليك بينما كان الرئيس أرسل له معونة مادية فتبددت في الطريق حتى لم يصل للمواطن سوى سلام السيد الرئيس دون معونته المادية التى أرسلها بعد أن أخذت كل يد نصيب ما من المعونة المرسلة.
وعلى كل حال فالمعتقل السياسي والمسجون السياسي أحسن حالا من المعتقل والمسجون الجنائي في هذا المجال و غيره لأن مباحث أمن الدولة تحرص على مستوى عام مقبول بدرجة ما في هذا المجال للمعتقلين والمسجونين السياسيين, و ذلك في السنوات الأخيرة فقط, بالإضافة إلى أنه حتى في حالة الخلل فإن وراء المعتقلين والمسجونيين السياسيين فريقا يدافع عنهم يضم صحفيين و محامين و منظمات مجتمع مدنى كلهم يدافعون عن السياسي بدرجة ما من حين لأخر أما المسجون والمعتقل الجنائى فإن معاملته أسوأ من معاملة الحيوان في السجون المصرية إلا من كان منهم مسنودا لسبب ما كمن عائلته كبيرة أو لديه علاقات واسعة مع ذوى النفوذ أو يمتلك ثراءا واسعا, وللعلم فإن المسجون الجنائى يقع تحت إشراف مباحث قطاع السجون وليس أمن الدولة.وعلى كل حال فالذى يهمنا في هذا الصدد هو كيف يتعامل المعتقل السياسي مع هذه المقررات من الطعام وفي الواقع فإن تعامل المعتقل السياسي يختلف عن الجنائى في هذا الصدد حيث أن المعتقلين والمسجونين السياسيين يتسلمون مقرراتهم الغذائية بشكل جماعى متضامنين مع بعضهم البعض و متكافلين سواء كانت الكمية صغيرة أو كبيرة و يتناولون طعامهم بشكل جماعى, وهذا على عكس الجنائين حيث عادة ما يتسلمون غذائهم فرادى, ولا يأكلون مع بعض إلا في حدود الصداقات المحدودة أو القرابة إن وجدت, و إلا فلا يأكل كل منهم إلا منفردا.
و يرتبط بهذه النقطة علاقات التكافل الأخرى التى عادة ما تجرى بين المعتقلين السياسيين الإسلاميين وهى تشمل كل المجالات في العادة حيث يخلطون كل الأطعمة الواردة إليهم من أسرهم فيما يسمى بزيارة أسرهم لهم في السجن, فيتم وضع طعام الغنى مهما كان كبيرا مع طعام الفقير مهما كان صغيرا أو رخيصا و يجلس الجميع مع بعضهم البعض يأكلون متساويين لا فرق بين عنى وفقير ولا بين كبير وصغير و لا بين جاهل وعالم ونفس الشئ يجرى في الدواء, فالطعام والدواء عادة ما يوزع على كل محتاج بغض النظر عن من جاء به وهذا في كل الأحوال سواء أحوال الضيق والشدة أو أحوال الراحة والرخاء و أذكر عندما كنا في سجن الواحات (الوادى الجديد) أننا كنا في حالة شدة وضيق و كان غير مسموح بدخول الطعام من قبل أسرنا إلا بكميات ضئيلة للغاية و كنا نوزع الدجاجة الواحدة على ثلاث غرف علما بأن كل غرفة بها عشرين معتقلا على الأقل و الأمر في الدواء كذلك بل أكثر من ذلك حيث كان كثيرون من المعتقلين ذوى اليسار المادى يشترون على نفقتهم الخاصة الدواء للمرضى الفقراء أو حتى الأغنياء الذين كانت أسرهم تتخلى عنهم فلا تزورهم في المعتقل و لا ترسل لهم طعاما ولا مالا ونفس الأسلوب يجرى بشأن المشتروات التى تم شراؤها من كانتين السجن حيث يجرى توزيعها بالتساوى على المعتقلين السياسيين بغض النظر عمن دفع ثمنها, وهذا كله معمول به بإنتظام في حالات الرخاء وفي حالات الشدة.
وفى حالات الشدة يجرى نفس أسلوب التكافل في الملابس و في الكتب أيضا خاصة الكتب الإسلامية.
و هذا الأمر ليس خاصا بإتجاه فكرى معين بل نجد الزنزانة بها أشخاص من جماعات متعددة ومختلفة فكريا لدرجة أن هناك جماعات تكفيرية (وعدده ضئيل جدا في العادة بالنسبة لبقية تيارات الحركة الإسلامية) تكفر كل من ليس عضوا بها حتى لو كان من جماعة إسلامية أخرى و مع ذلك يلتزمون بقواعد التكافل هذه دون أى إستثناء.
وحتى عندما ينضم للمعتقلين السياسيين الإسلاميين أشخاصا من خارج الحركات الإسلامية بعامة أو حتى من يسمون بقضايا إدراء الأديان فإن قواعد التكافل هذه تجرى عليهم بإنتظام أيضا.وتطورت قواعد التكافل هذه مع مرور السنين الطويلة من تكافل أشبه بالنظام الشيوعي في جانبه الحسن إن جاز التعبير إلى تكافل أشبه بالنظام الرأسمالى في جانبه الحسن أيضا إن جاز التعبير.
فمثال الأول هو ما سبق ذكره حيث كل الملكيات هى ملكية عامة بسبب الشدة وسوء المعاملة وندرة الموارد جدا إزاء الحاجات.أما الثانى فجرى إقرار الملكية الفردية للأشياء التى ترد في الزيارات أو من قبل أسر المعتقلين كالمال وغيره مع حض أصحابها بالموعظة الحسنة على التصدق والتبرع به و إعادة توزيعه بالتساوى على جميع المعتقلين المحتاجين الذين يكون جرى حصرهم مسبقا.
و إستقر الأمر إما على النظام الأخير أحيانا أو في أحيان أخرى على نظام هجين مكون من مزج ما بين ما بين النظام الأخير و الأول.و فى كل الأحوال كان أنصار كل نظام يسوقون الأيات والأحاديث التى يستدلون بها على أفضلية نظامهم لكن أحدا لم يقل بأن النظام الذى يتبناه فريضة حتمية إلا أصحاب نظام إحترام الملكية الفردية و إعادة التوزيع من التبرعات, أما بقية النظم فكان أصحابها يقولون أنها ليست فريضة ولكنها فضيلة مستحبة يحتمها الواقع الصعب الذى نعيشه.
و أذكر في النظام الأخير (نظام الملكية الفردية) أنه عندما أقر هذا النظام الفردى بعد نظام الملكية العامة و نحن في سجن الفيوم عام 2000م فإن نصيب الفرد الفقير إرتفع من جنيه وربع في الشهر في نظام الملكية العامة إلى أكثر من 15 جنيه في الشهر في النظام التبرعى الطوعى في الملكية الفردية. كما أذكر أننا بعد ذلك في سجن أبى زعبل الجديد في عام 2004م عندما سمحت إدارة السجن لنا بإدخال ثلاجات على نفقتنا الخاصة إنخفضت التبرعات و إشتكى لي الشيخ جاد القصاص وقال لى: "مش عارف أقول إيه هل أدعو الله أن تحترق كل هذه الثلاجات, يا أخى نحن نأكل لحم كل يوم وبجانبنا زنزانة طعامها قليل" قلت له: نشط عملية التكافل شوية وكلف بها أشخاصا نشيطين" فاستجاب لنصيحتى, و كان الشيخ جاد إمامنا وواعظنا في صلاة الجمعة وغيرها, فنصح الناس بالتصدق و أشرف على جمع الطعام و إعادة توزيعه و انصلح الحال مرة أخرى, لكن هناك عنبر أخر في نفس السجن كان يجرى فيه نظام الملكية العامة في نفس الوقت.
كما أذكر أيضا بهذا الصدد عندما كنت في سجن إستقبال طرة في أواخر 2004م و أوائل عام 2005م أن جاء معتقلون لقضية جديدة شهيرة و كان عددهم كبيرا وكانوا كما الحال مع كل معتقل جديد ممنوع عليه الإتصال بأهله و ربما لا يعلم أهله مكانه أصلا وبالتالى لا تصله نقود ولا ملابس و لا طعام من أهله, و حينئذ سمحت لهم إدارة السجن بتلقى ما يشاءون من المعتقلين القدامى من في عنبر(ب) و عنبر (د) وكان هؤلاء الجدد يملأون عنبر (ج) حيث كان عددهم نحو 400 معتقل و كانوا بالطبع يحتاجون ملابس و كمية كبيرة وغالية الثمن من الأدوية بالإضافة للبطاطين والفرش, وقد قامت فئات عدة بشراء كل هذا لكل هذا العدد و تكلف ذلك عدة آلاف من الجنيهات دفعها المقتدرون من قدامى المعتقلين الإسلاميين.
و منذئذ أصبح مثل هذا العون لمعظم القادمين الجدد أمرا مستقرا ومسموحا به إلا في حالات إستثنائية جدا و ظل هكذا إلى أن جرت محاولة الهروب من سجن إستقبال طرة حيث أصبح سجن إستقبال طرة خاوايا من المعتقلين القدامى ومقصورا غلى الجدد فقط.
والمعونة هذه كانت دائما إما بإذن مباشر من إدارة السجن أو بضوء أخضر خفى منها.و إذا كانت هذه هى القواعد العامة لمجال التكافل بين المعتقلين في الطعام و النقود والملابس و الأدوية فإن لكل قاعدة إستثناء أو أكثر, و من هذه الإستثناءات أننى كان لدى في حسابى المالى لدى السجن مبلغا من المال لأن أبى رحمه الله كان يرسل لى حولات متعددة كل شهر كل منها بمبلغ مائة جنيه و تراكم المبلغ لأننا ظللنا أكثرمن سنة غير مسموح لنا بالتصرف في نقودنا فعندما سمحوا لنا بالتصرف فيها بقيود معينة صرت من الأثرياء بسبب هذا التراكم و صرت أنفق منها بسعة فكلمنى محمد وهو صديق لى عبر الشباك و كان في زنزانة أخرى وقال لى مازحا أنه تأتيه زيارات كثيرة و لا يأتيه مال و أنا يأتينى مال كثير بينما لاتأتينى زيارات ثم أكمل فما رأيك بأن نبدل جزءا من الزيارات بجزء من المال, فضحكت و قلت له أنا تحت أمرك بلا شئ, و كان هذاالصديق من جماعة الجهاد المصرى و كان جالسا في غرفة مع عدد من أعضاء وقادة الجماعة الإسلامية, و ذكر لى فيما بعد عندما قابلته على إنفراد أنه و إن تكلم بصيغة المزاح فإنه كان جادا لأن واحدا أو أكثر من رفقائه في الزنازنة ألمح له بإمتعاضه من محمد نفسه لأنه لا يصله مال من أسرته.
ثم إتصل بى بعد ذلك صديق اسمه مصطفى من جماعة الشوقيين و كان الإتصال عبر ثقب الباب لإن بابى الزنزانتين كانا متلاصقين و قال لى أنه بحاجة أن أرسل له من حسابى بضاعة من الكنتين بمبلغ ثمانين جنيها له ولشخص أخر معه لا أذكر اسمه و هو من جماعة أخرى تكفر كل من ليس معهم بما في ذلك تكفر الشوقيين, و قال لى أنه سيقوم بسداد ذلك لى فيما بعد عندما يصله مال من زوجته, و أنا فهمت الموقف جيدا في التو واللحظة لأن كل السلع التى كانت يتم شراؤها من الكنتين كانت توزع بالتساوى على جميع من في العنبر بغض النظر عمن دفع و من لم يدفع, ففهمت أن شخصا ما في الزنزانة مع مصطفى قد وجه له لوما تلميحا لإنه ليس لديه مال فأراد أن يظهر أن لديه مالا رغم أن كل المال سيوزع في النهاية بالتساوى و أنا قررت على التو أيضا أننى سأصر على عدم إسترداد هذا المبلغ منه و قد كان.وعندما قابلت مصطفى منفردا فيما بعد ذكر لى أن تخمينى بشأن اللوم كان صحيحا.
و في الواقع إننى لم أكن أزور في ذلك الوقت لأنى كنت أرسلت لأسرتى ألا يأتوا وأن يرسلوا لى مبلغ كذا كل شهر حتى أرسل بالتغيير إما تغيير المبلغ أو إستدعائهم للزيارة و ذلك لأن الزيارة كانت في منتهى السوء وبها مشقة كبيرة على الأهالى و أيضا على المعتقلين رغم إنه كان مسموحا بدخول قليل من الطعام عبرها و كانت إدارة السجن أحيانا تسمح بدخول بعض الدواء و بعض الملابس أو بعض الكتب الدراسية المعتمدة وأحيانا أخرى لا تسمح بشئ من ذلك و لم يكن لذلك قواعد مستقرة.
و بغض النظر عن أى تفاصيل فإن القاعدة كانت و ما زالت هى التكافل التام أو شبه التام و ما إعترى ذلك من ممارسات تخالف روح التكافل كانت أفعلا فردية لا تعبر إلا عن سلوك شخصى فردى لا علاقة له بالخط العام والعرف العام الذى كان دائما تكافلا إسلاميا تعددت صوره على النحو الذى سبق ذكره.
عبدالمنعم منيب
 تم نشر هذا المقال في المدونة القديمة و في جريدة" الدستور"المصرية  5 ديسمبر 2007 و كان هو الحلقة الثالثة من 16 حلقة نشرت تباعا بشكل أسبوعي منذئذ شرحت مشاهداتي للأوضاع الاجتماعية و النفسية و الاقتصادية للمعتقلين السياسيين في سجون مبارك طوال فترة اعتقالي التي استمرت من 21 فبراير 1993م و حتى 1 أغسطس 2007م.


موضوعات متعلقة:

تعليقات