خالد سعيد و أمريكا و الاتحاد الأوروبي

قضية خالد سعيد تتجسد فيها كل معاني السياسة المصرية القائمة على ديكتاتورية يحرسها قمع و تعذيب المواطنين و تتوازن في ذلك بشكل عجيب مع علاقات وثيقة مع الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة بكل ما يجسداه من نفاق بشأن قضايا الحكم الديمقراطي و الحريات و حقوق الانسان, فالاحتجاجات الشعبية بشأن مقتل خالد سعيد على يد الشرطة ممتدة منذ مقتله و حتى الآن, و مع ذلك لم تبادر الحكومة للاعتراف بدور للشرطة في الحادث إلا بعد صدور بيان من الاتحاد الأوروبي و تصريح رسمي أمريكي يطالبان الحكومة المصرية بمحاكمة المسئولين عن مقتل خالد سعيد, و من هنا تأتي خطوة النظام في تقديم شرطيين للمحاكمة أحدهما رقيب و الأخر أمين شرطة, فالنظام ليس من عادته و أسسه التي يسير عليها أن يعاقب حراسه على تعذيب أو قسوة أو حتى قتل, و أتحدى أن يذكر لي أحد أن أيا من حراس النظام صدر ضده حكم بسجن طويل نافذ جراء تعذيب أو قتل المتهمين أو المسجونين في سجون و معتقلات النظام طوال الثلاثين عاما الماضية, كما أن النظام ليس من عادته أن يستجيب لضغوط الشعب لأن الاستجابة لضغوط الشعب ضرب من ضروب الديمقراطية التي يأباها النظام و يستكبر عنها و يستعلي عليها لأن الشعب من وجهة نظره لم يبلغ مبلغ الرشد بعد فليس فيه من هو في حكمة الرئيس أو الوزير أو المدير و من ثم فلا يجوز الاستماع لصوت الشعب ولا الاستجابة لمطالبه و أمانيه لأنه ليس مؤهلا للحكم, و كلنا يعرف من هو المؤهل فقط للاستئثار بالحكم دون الشعب و قواه السياسية المعارضة للنظام.

النظام فقط يستجيب للضغوط الخارجية ليس فقط لأنها مرهونة بالمساعدات الخارجية الاقتصادية و السياسية و الأمنية و لكن لأنها أيضا قصيرة النفس قصيرة الهدف فهدفها تبييض وجه النظام أمام الرأي العام الأوروبي و الأمريكي المخدوع بأن حكامه يراعون قواعد الديمقراطية و الحرية و حقوق الانسان في علاقاتهم مع حلفائهم الخارجيين و لا يقدمون مساعداتهم إلا لمن يراعي هذه المعايير, و بالتالي فالنظام لا يخسر شيئا عندما يستجيب للضغوط الغربية في هذا المجال, و العملية سهلة..عدة تصريحات مصرية رسمية تندد بالتعذيب و تقيد الطوارئ بالارهاب و المخدرات و تنفي وجود اعتقالات و تمجد في الحرية و الديمقراطية و حقوق الانسان..صناعة مجلس تزعم أنه لحقوق الانسان..تقديم شرطي أو اثنان او حتى ثلاثة من الرتب الدنيا للمحاكمة ثم صدور حكم مخفف عنهم أو حكم مع ايقاف التنفيذ ثم رجوعهم للخدمة بعد انفاذ الحكم المخفف و القصير ليقوموا بحماية النظام عبر القمع و التعذيب مرة أخرى مع ما يتخلل ذلك من مكافاءات و حوافز (راجع قصة الضابط رشاد نبيه في قضية تعذيب عماد الكبير), أما لو استجاب النظام لمطالب الشعب و قواه المعارضة فالنتيجة غير مضمونة لأن الشعب يطالب بتداول السلطة و محاسبة المسئولين عن الخراب الذي عاشته و تعيشه البلاد من جراء النظام الحاكم و حزبه, و من ثم فنتيجة الاستجابة لضغوط الشعب عواقبها وخيمة على النظام الحاكم لذا فمستحيل أن يستجيب للشعب.

تقديم الشرطيان للمحاكمة جاء بقرار من النائب العام و النائب العام رغم أنه ممثل الشعب و أحد أركان السلطة القضائية إلا أنه يتم تعيينه من قبل رئيس الدولة رأس السلطة التنفيذية, و لا يصح أن نطالب بتعيين النائب العام بقرار من أغليبة مجلس الشعب لأن أغليبة مجلس الشعب لا تمثل الشعب لأنها اغلبية جاءت عبر انتخابات شهد القاصي و الداني بتزويرها, فهي أغلبية مزيفة.

و هناك مئات بل ربما آلاف البلاغات بالتعذيب و اساءة المعاملة و الاعتقال خارج نطاق القانون مركونة في أدراج النيابة, لكن القانون لا يتيح لأحد تقديمها للمحاكم غير النائب العام و سيادته لم يقدم أيا منها منذ ثلاثين عاما و حتى الآن سوى ثلاث أو أربع قضايا لها ظروفها و جاءت كلها بالبراءة أو الحكم المخفف أو مع إيقاف التنفيذ و كان أشهرها محاكمة أربعين من ضباط الشرطة في منتصف الثمانينات بشان اتهامهم بتعذيب متهمي قضية الجهاد الكبرى عام 1981, و جاءت الأحكام بالبراءة و تبوأ جميع الضباط المشمولين فيها أكبر المناصب في وزارة الداخلية و في الدولة و مازال كثير منهم حتى الآن في بعض هذه المناصب حتى كتابة هذه السطور, بل لو تتبع احد الأسماء التي اتهمت بالتعذيب سواء قضائيا أو اعلاميا في الثلاثين عاما الأخيرة لوجد أن مناصب هامة عديدة ظلت حكرا على هؤلاء.

و من هنا فأتوقع أن يصدر حكما مخففا أو مع ايقاف التنفيذ ضد الشرطيين الذين تمت احالتهما للمحاكمة في قضية خالد سعيد ليس لأني أتهم القضاء بالتسيس و لكن لأن عقوبة التعذيب في القانون المصري تتراوح بين يوم حبس و ثلاث سنوات كحد أقصى, فالتعذيب ليس جناية بل هو مجرد جنحة, كما أنهما لم يحالا بتهمة التعذيب لكن بتهمة القسوة فقط, أما القبض بدون وجه حق و هي تهمتهم الثانية فرغم أنها جناية لكن هناك ما سيدعو قانونيا لتخفيفها لحسن نيتهما لأن القتيل عليه حكم غيابي و كان بحوزته بانجو بل ربما أثبتا أحقيتهما في القبض عليه لأن وجود البانجو معه قد يمثل حالة تلبس, و هكذا تنتهي القصة, لكن على كل حال سيتوجب على القاضي الذي سيحاكمهما الاجابة على سؤالين مهمين هو: كيف ابتلع خالد سعيد لفافة البانجو تو محاولتهما القبض عليه و مع ذلك لم يمت حتى تم القبض عليه و تعذيبه؟ أم أنه مات تو البلع و مع ذلك أصاباه بما به من اصابات و هو ميت؟ أم أنهما سيطرا عليه و مع ذلك تركا له البانجو ليبلعه؟

و السؤال الثاني: هل هذان الشرطيان كانا يمشيان هكذا دون ضابط يرأسهما و يتصرفان هكذا دون الرجوع لضابط المباحث و لو عبر اللاسلكي أو التليفون المحمول؟ و هل هذه هي قواعد العمل في الشرطة.. كل بمفرده؟


عبدالمنعم منيب

تعليقات