في مصر وزراء يتحايلون بأساليب شتى و يبيعون بطرق مختلفة أراض و أشياء عديدة ملك للدولة, يبيعونها لمحاسيبهم أرخص من التراب, و الدولة بأجهزتها الرقابية العديدة التي تعد الأنفاس على معارضيها تغط في نوم عميق ازاء ما يقوم به السادة الوزراء و غيرهم من كبراء الحزب الوطني من التربح من مناصبهم عبر أملاك الدولة, إذ بعد مهزلة بيع القطاع العام و المشروعات الانتاجية التي كانت تمتلكها الدولة أرخص من التراب, اتجه الكبراء إلى بيع أراضي الدولة بنفس الطرق المشبوهة أو لنقل الموصومة, حكى لي بعض العاملين السابقين بمصنع منتجات زيوت القطن بالقناطر الخيرية أن الشركة كان لها فرعان و كان مكسب الفرعين سنويا يزيد على 30 مليون جنيها صافيا, فتم بيع الفرعين لمستثمر بمبلغ 70 مليون جنيه فقط, كما أعطوا المشترى حرية تصفية المصنع إذا وجد انه غير مربح و بيعه كأرض سكنية, و لينظر القارئ الكريم لهذا البند الاعجازي, فالمفروض نبيع مصنع و نشترط على المشتري أن يضخ استثمارات جديدة و يشغل عمال اضافيين, لكننا بالعكس نعطيه حق تصفية المصنع و بيعه أرض كأرض سكنية رغم ما نعرفه عن ارتفاع سعر الأرض السكنية لا سيما عندما تكون على كورنيش النيل في القناطر كما هو حال هذا المصنع البائس, وفعلا لم يكذب المستثمر المزعوم الخبر, فأوقف انتاج المصنع لسنة, فخسر المصنع فباع ماكينات خطوط انتاجه بعشرات الملايين, و سرح عماله, و باع الأرض كأرض سكنية بسعر للمتر لا يقل عن 4 آلاف جنيه و يقال أن مجموع سعرها بلغ أكثر من مائة مليون, هل نرى أن هذه صفقة مشبوهة؟ طبعا مشبوهة جدا.. فأين أجهزتنا الرقابية.. أين الجهاز المركزي للمحاسبات و أين النيابة الادارية و أين الأجهزة الأمنية و أين النيابة العامة.. بل أين الضمير العام و الخاص في مصر كلها ؟
و أيا كان الأمر:
لقد أسمعت إذ ناديت حيا ..
و لكن لا حياة لمن تنادي
و من ناحية اخرى فمصر ليست هي فقط رجال الأعمال الطفيليين الذين كونوا ثرواتهم عبر نهب الثروات المصرية العامة دون أن يتحملوا مشقة العمل الجاد المنتج و المفيد, فمصر فيها رجال آخرون بذلوا و مازالوا يبذلون الغالي و النفيس من أجل عزة هذا الوطن و تقدمه و رفعته, و يأتي على رأس هؤلاء العلماء الأجلاء في أروقة الجامعات و غرفات المعامل و مراكز البحوث المحترمة المتعددة, فمن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر العلماء الذين توصلوا لاستنباط سلالات من القمح و الأرز و الذرة يمكن زراعتها بالماء المالح، وفي أي نوع من التربة مهما كانت قاحلة، من أجل إنتاج سلالات أكثر تحملا للملوحة والجفاف، وذلك بغرض توفير المصادر المائية لاستخدامها لري محاصيل أخري، وكذلك إمكانية استخدام مصادر أخري للري مثل مياه الصرف الزراعي ومياه الآبار و مياه البحر ذات الملوحة المرتفعة، و من هنا يمكن زراعة ملايين الأفدنة في الصحراء المصرية القاحلة عبر ريها بماء البحر (و هي كثيرة لا تنفد بإذن الله), و للقارئ الكريم أن يتصور حجم وفرة الانتاج الزراعي التي سوف تحدث لو زرعنا الصحراء بماء البحر من هذه المحاصيل الثلاثة لا سيما أنه باستمرار البحوث ممكن استنباط أنواع من المحاصيل الأخرى كالخضروات مثلا يمكن أن تروى أيضا بالماء المالح.
و هناك العالم المصري الآخر بالمركز القومي للبحوث الذي ابتكر فكرة تنقية مياه الصرف باستخدام ورد النيل الذي عادة ما يمتص الرصاص من الماء و يتغذى عليه, كما ابتكر طريقة لصناعة الطوب من ورد النيل الذي من المنتظر أن يتكاثر و يُنْتَج بوفرة من الأحواض التي سوف تُسْتخدم في تنقية مياه الصرف.
و هناك آلاف العلماء و الفنيين المتخصصين في الطاقة النووية الذين يعانون من المرتبات الهزيلة و الأدوات و المعدات و المعامل الأكثر هزالا و مع ذلك مازالوا يعملون بدأب و مثابرة من أجل خدمة هذا الوطن لا يبتغون سوى الخير لهذا البلد حتى و لو على حساب راحتهم الشخصية هم و أسرهم في زمن أصبح أجر الراقصة أو لاعب الكرة في شهر أكبر من أجر ألف عالم نووى مصري في أعوام.
ليس هدفي من ذكر هذه النماذج أن اطالب الحكومة بالالتفات لهذه الأبحاث و هؤلاء العلماء و العمل بمقتضى أفكارهم الخلاقة, لأنني فقدت أي أمل في أي حكومة يشكلها الحزب الحاكم, و أيقنت أن قادة و كبراء هذا الحزب لا يبغون غير مصالحهم الشخصية الضيقة التي تخصهم هم و اسرهم, فكبراء الحزب الحاكم لا تحركهم فقط شهواتهم الشخصية بل يكمن وراء هذه الشهوات عقل ضيق يتسم بالجمود و التقليدية و هذه التقليدية محكومة بطريقة تفكير أسيرة للفكر الرأسمالي الغربي الكلاسيكي أو لنقل لا تعرف سوى التبعية الفكرية للفكر الاقتصادي الذي يسوقه لهم سادتهم في البنك و صندوق النقد الدولي و المؤسسات الاقتصادية الأوروبية و الأمريكية, فكل طموحهم هو ترويج اقتصاد الخدمات و على رأسها السياحة و الترفيه, و هو اقتصاد غير مستقر و غير مضمون لأنه عرضة للتقلبات الدولية, أما الاقتصاد المنتج الحقيقي من زراعة و صناعة و توطين التكنولوجيا المتقدمة فهذا ليس فقط بعيد عن عقول سادة و كبراء الحزب الحاكم بل هو بالأحرى بعيد عن ذقونهم.
إن هدفي من ذكر كل هذه النماذج المشبوهة و المخلصة هو ان أنبه ان مصر ليست كلها ظلام لكن فيها هذا و ذاك, صحيح أن الغلبة أو الظهور الآن للشر لكن لاشك ان لكل شر نهاية, كما أن نماذج الخير الموجودة في البلد لا بد أن تشجع عامة الشعب و خاصة الشباب على اتخاذ هذه النماذج الخيرة كقدوة لها و أن لا يفتتنوا بسادة و كبراء الحزب الحاكم حتى لا يأتوا يوم القيامة فيقولوا: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}الأحزاب67.
عبدالمنعم منيب
تعليقات
إرسال تعليق