من أمتع ما كتب في الأدب العربي حكايات ألف ليلة وليلة حيث يمتزج الواقع مع الخيال بما يقربك من أدب الخيال العلمي الذي لم يظهر إلا في هذا القرن .
وتبقى القصة في ألف ليلة مفتوحة إذا أعجبت الناس ليدخل عليها كل جيل ما يناسب حاله, وكأنما القصة التي كتبت في الماضي لا تختلف كثيرا عن هموم الحاضر الذي يعانيه حيث يشعر أن الانحرافات البشعة التي عاشت في الماضي ردحا من الزمن تعود كل حين وحين, وكأن أبطالها أشباح يطاردون الناس في مقامهم ومقيلهم ومنامهم بما يضج عليهم مضاجعهم.
ومن أمتع هذه القصص التي تتفق كثيرا مع واقعنا :
قصة أحمد الدنف وعلي الزيبق وحنفي الونش ودليلة المحتالة, وهؤلاء أصلا قبل أن يعتلوا مناصب المقدمين والقضاة وممثلي الادعاء ومستشاري السلطان كانوا من طبقة تسمى الحرافيش, ولا يعرف أحد على وجه الدقة متى بدأ اسم الحرافيش في الظهور ولكن الذي كتب في التاريخ أن الحرافيش قاتلوا مع الأمين ضد المأمون ثم انتشرت الطبقة وانتشر الاسم إلى يومنا هذا, وهو موضع قصص مختار للأديب نجيب محفوظ عن قصة عاشور الناجي وأولاده, وقصص الحرافيش وكيف يبدأون صبيان للمعلمين الذين يجمعون الجباية من الناس ويفرضون عليهم الطاعة بقوة النبوت ثم يصبحوا هم بعد ذلك معلمين بعد قهر المعلمين الأول الذين أذاقوا الحارة ألوانا من الذل, فيبدأوا بالعدل ثم يستتب سلطانهم حتى يحتاج إليهم السلطان عند ضعف السلطة التنفيذية ويأخذ منهم الشرطة والحرس والقضاة والمستشارين لأنهم أعلم بالشطار والعيارين من أمثالهم قبل أن يصبحوا معلمين وبهذه المعرفة يستطيعون حفظ الأمن .
ولقد استعان السلطان عتريس بالكثير منهم ولكنهم بعد فترة بدأوا يشاركونه السلب والنهب والإفساد في الأرض وانطبق عليه المثل القائل " طغى في البلاد وأكثر فيها الفساد وقتل العباد وللخزائن أباد " , فقامت الثورة على السلطان عتريس, ولكن هؤلاء استطاعوا أن يتحصنوا باسم العدالة والقضاء وأنهم فوق الجميع, وجاء بعد السلطان عتريس السلطان زقزوق فحاول إرضاءا للشعب إصلاح الأمر, ولكنه لم يكن يعلم أنهم أقوى مما يظن, فحاول أن يعزل حنفي الونش فأعد له الونش جمهرة ممن يقال عنهم أهل الحصانة, ففوجئ بهم السلطان زقزوق يقتحمون مكتبه فلم يظن أنهم من أهل الرسالة أو الكتابة أو القضاء لضخامة أجسامهم مع أذرع مفتولة وأكتاف عريضة وجماجم ضخمة كأنما قدت من البازلت ولا يبدوا عليهم من أول وهلة غير صفة البودي جارد فظنهم من حرسه ولكنه فوجئ بأنهم أهل الحصانة, وإذا بالأكتاف تلمس كتفه الرقيق في إشارة إلى ضربة كتف قانونية, والجماجم البازلتية تقترب من رأسه الدقيق في إشارة إلى ضربة رأس تغير نتيجة الماتش وتلقي به خارج الدوري, ولما كان زقزوق ما زال عظمه طري فقد استسلم للمسات أكتافهم وجماجمهم ووعدهم بما يرضيهم وأنهم على ما كانوا عليه أيام السلطان عتريس, ويشيع أنصار السلطان زقزوق أنه كان يبحث عن خروج مشرف لحنفي الونش, ولكن الآن سيعيد فتح جميع الملفات ويخرج أهل الحصانة بما يستحقونه من العار, ويقول أهل الحصانة هيهات هيهات .
هذه القصة الممزوجة بالخيال ليست خاصة بعصرنا ولكنها تحدث دائما في أوقات ضعف السلطة التنفيذية من أيام العباسية إلى المملوكية إلى العثمانية إلى المصرية, وعندما تضعف السلطة التنفيذية تشتد سلطة الحرافيش على الحواري ويفرضون الجبايات على أهل الحارات من الجمالية إلى الدراسة إلى المدبح إلى قلعة الكبش واسطبل عنتر, ولتكرار هذا الواقع بين حين وآخر يظن الناس أن هؤلاء من الأشباح يغدون ويروحون ويختفون ويظهرون ودائما ما يقولون: اللهم اجعل كلامنا خفيف عليهم, لقد اختلط الواقع بعالم الجان لشدة الفوضى والطغيان.
ولن يتحرر الناس من هذا الاختلاط إلا بوجود سلطة تنفيذية قوية مستقرة تفصل الواقع عن الأوهام ووقتها يشعر الناس بانتهاء قصص الخيال العلمي والأشباح وأنهم يعيشون الحقيقة التي يتمتعون فيها بالعدل والرخاء ولا يخافون على انقطاعها فقد اختفى الأشباح إلى الأبد, ولم يعد إلا الحقائق ساعتها تظهر حكمة أبي بكر الصديق كحقيقة لا خيال: " القوي فيكم هو الضعيف عندي حتى أخذ الحق منه والضعيف فيكم هو القوي عندي حتى أخذ الحق له ", وتظهر حكمة عمر: " إن هذا الأمر لا يصلح إلا بالقوة التي لا جبرية فيها واللين الذي لا وهن فيه", ساعتها يعيش الناس في رفاهية وسعادة لا يعكر صفوها ظهور أشباح أحمد الدنف وعلي الزيبق وحنفي الونش ودليلة النصابة وزينب المحتالة وغيرهم وغيرهن من أهل الحصانة والرطانة من حين لآخر, وإلى أن يأتي هذا الوقت أترككم على خير ...
موضوعات متعلقة
تعليقات
إرسال تعليق