الانتخابات المصريَّة القادمة بين العلمانيَّة والإسلام

يدور صراعٌ بين الفكر العلماني والعقيدة الإسلامية في مصر بشكلٍ دائم بأشكال وأساليب مختلفة، ولعل موقف التيارات الإسلامية المختلفة من انتخابات مجلس الشعب القادمة أبرز مثال على ذلك؛ حيث هناك موقف ثابت بتحريم خوض أي انتخابات برلمانيَّة ترشحًا أو تصويتًا تتبنَّاه التيارات السلفيَّة وغيرها، كما أن هناك موقفًا يتبناه الإخوان المسلمون، قائم على المشاركة في هذه الانتخابات كلما كانت الأحوال مواتية.

ولفهْم أبعاد الصراع الإسلامي العلماني في مصر لا بدَّ من تأمُّل الفصول المختلفة لقصة هذا الصراع منذ بدايتِه, فقد اندلع جدل واسع في بدايات القرن العشرين في مصر حول الطريق الذي ينبغي أن يسلكه المصريون من أجل النهضة، وانقسم المصريون إلى فريقين, فريق يقول أنه لا سبيل للنهضة والتطوُّر إلا بتبني أطروحاتِ الفكر والحضارة الغربية المعاصرة حلوها وشرها, بينما دعا الفريق الآخر إلى حتميَّة تبنِّي المنهج الإسلامي في الدين والدنيا لإصلاح شئوننا والنهوض من كبوتِنا, الفريق الذي دعا لتبني الحضارة الغربية دعا للعلمانيَّة فيما يتعلق بمجال السياسة، ولم يستبعدْ أن يكون المواطن متدينًا فيما بينه وبين ربه، أي داخل جدران بيته ومسجده أو كنيستِه, بينما الفريق الذي تبنَّى الفكر الإسلامي رفع شعار "الإسلام دين ودولة", كما لم يستبعد أن نستفيد من الحضارة الغربية إيجابياتها ونتجنب سلبياتها.

الفريق العلماني رأى بشكلٍ ضمني حينًا وبشكل مباشر في معظم الأحيان أن حضارتنا العربية أو الإسلامية هي سبب تخلُّفنا عن ركب التقدم التكنولوجي الذي شهدتْه أوروبا في العصر الحديث, ولا يمكن التقدم إلا عبر التخلي عنها والتبني الكامل للحضارة الغربيَّة الحديثة في كلِّ المجالات, كما رأى كثير من أقطاب هذا الفريق أن مصر تنتمي للفراعنة ولا تنتمي للعرب، ومن ثَمَّ فتوجهُها للغرب ليس لأنه من مصلحتها فقط ولكن أيضًا لأنها لا تمتُّ للحضارة العربيَّة (حاملة رسالة الإسلام) بصلة.

الفريقُ الإسلامي أعلن أن التخلُّف الحضاري الذي شهدته وتشهده المنطقة هو بسبب تخلِّي الأمة عن المنهج الإسلامي الأصيل وانحرافها عن تعاليم الإسلام الحقيقي, وأن الأمَّة الإسلاميَّة والعرب عندما تمسَّكوا بالإسلام كمنهج حياة دِينًا ودولة فإنهم أبدعوا حضارة زاهرة يشهد لها العالم بالتفوق، وذلك منذ عهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحتى نهاية عهود الازدهار الإسلامي, بل وحتى عهود الجمود في التاريخ الإسلامي لم تخلُ من جوانب الازدهار في بعض جوانب الفكْر والفن والعلوم.

باستمرار النقاش وبمرور الوقت نقَّح كل من الفريقين أطروحاتِه، فلم يعدْ هناك مكان للجمود على الأُطروحات التراثيَّة فقط لدى الفريق الإسلامي، ومن ثَمَّ ضعف الفصيل المنتمي لمدرسة الجمود هذه بين الفريق الإسلامي, كما لم يعدْ هناك عداءٌ لكل ما هو قديم أو تراثي عربي أو إسلامي لدى الفريق العلماني وانزوى ذوو مثل هذه الميول في زوايا هذا الفريق العلماني (باستثناء الحالة الماركسيَّة).

كلُّ هذه المناقشات كانت بين النخبة الفكريَّة والثقافيَّة، بينما ظلَّت أغلبيَّة الشعب مطحونةً في البحث عن لقمة عيشها بعيدًا عن أي أفكار لا إسلاميَّة ولا علمانيَّة, ولكن تلامذة الشيخ محمد عبده أعطوا زخمًا فكريًّا وعمليًّا للفريق العلماني عندما قاد قاسم أمين (تلميذ الشيخ) ما سمَّى بحركة تحرير المرأة، وأصدر كتابيه على التتابع "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة", كما أعطى تلميذًا آخر للشيخ محمد عبده دفعة عمليَّة للتوجه العلماني في مجال الاقتصاد وهو طلعت حرب باشا، الذي أسَّس بنك مصر وشركاته على أُسُس رأسماليَّة بحتة لم تتأثر لا بالمنهج ولا بالحضارة الإسلامية في شيء، اللهم إلا في التصميمات المعماريَّة والديكورات الخاصة بمقارّ البنك, ثم أعطى سعد زغلول باشا دفعة عمليَّة أخرى للحركة العلمانيَّة (وسعد تلميذ للشيخ محمد عبده أيضًا) في المجالَيْن السياسي والاجتماعي عبر ثورة 1919 التي اعتمدت شعارات وأُطروحات علمانيَّة ليبراليَّة، وترجمت ذلك في دستور 1923 العريق, وهذه الحركة وإن أعطت دفعة للمشروع العلماني سياسيًّا في صورته الليبراليَّة، إلا أن ذلك كان مفيدًا للحركة الإسلاميَّة، لأن أجواء الحرية التي تتيحها الليبراليَّة مفيدة جدًّا لحركة التيار الإسلامي, إلا أن خطورة ما فعله سعد بالنسبة للحركة الإسلاميَّة تكمُن في أنه استغلَّ إنجازاتِه السياسيَّة بنجاحٍ من أجل تغيير المجتمع نحو مزيدٍ من القرب من القِيَم الاجتماعيَّة الغربيَّة، ونجح في ذلك هو وخلفاؤه، سواء من أحزاب الأقليَّة أو حزب الوفد الذي قاده من بعده مصطفى النحاس عبر مناهج التعليم وسياسات التوظيف التي كان أسَّس لها الإنجليز على يد اللورد كرومر، واستمرُّوا في متابعتها حتى خروج الاحتلال من مصر.

جاءتْ ثورة يوليو باتجاه بدا أنه جديد على مصر ومختلف عن الاتجاهَيْن السابقين، وهو الاتجاه "القومي العربي", فلا هو وطنيَّة مصريَّة كما دعا الفريق العلماني منذ مطلع القرن، ولا هو "أمميَّة إسلاميَّة" كما دعت لها الحركة الإسلامية.

كان عددٌ من قادة ثورة يوليو، وعلى رأسهم عبد الناصر والسادات وخالد محيي الدين، تلامذة لبعض الوقت لدى الإمام حسن البنا، كما استمعوا وأُعجبوا بأحمد حسين (زعيم مصر الفتاة ذي الاتجاه العروبي في آخر أيامِه) ومن ثَمَّ قد نشعر بشيء من الميول -أو بتعبير أدق المظاهر الإسلاميَّة- لدى هذا الاتجاه, ولأن هذا الاتجاه كان عروبيًّا فلم يدعُ لقطيعة مع تاريخنا وتراثنا العربي الذي هو أيضًا إسلامي, لكن أيضًا هذا الاتجاه كان علمانيًّا؛ فعبد الناصر وخالد محيي الدين وغيرهما تتلمذوا كثيرًا على رموز التيَّار الماركسي في مصر، ثم هم اختاروا العلمانيَّة في الحكم وناصبوا الإخوان المسلمين وأطروحاتِهم الإسلاميَّة العداء, ولذلك فرض عبد الناصر العلمانية في الحكم لكن هذه المرة (وبعكس سعد في ثورة 19) دون الليبراليَّة, واستمرَّ نهج نظام حكم يوليو علمانيًّا وبلا ليبراليَّة حتى اليوم.

وبذلك نرى أن الجدل الإسلامي العلماني ظلَّ بين النخبة فقط حتى اليوم, أما الأخذ بالخيار العلماني في الحكم فقد فرضَه قطاعٌ من النخبة دون اختيار من الشعب عبر ثورتي 1919 و1952.

وفي هذا الإطار العام يمكن فهم لماذا ترفض أحزاب الوفد والتجمع والجبهة الوطنيَّة مسألة التحالف في الانتخابات مع الإخوان المسلمين، ولماذا ترفض العديد من القوى السياسيَّة أن يكون للإخوان المسلمين (ومن باب أولى أيّ تيَّار إسلامي آخر) حزبًا سياسيًّا أو مشاركة في الحياة السياسيَّة الحاليَّة, فكلهم يخشَوْن أن تصلَ الأمورُ إلى تخيير الشعب بين العلمانيَّة والعقيدة الإسلاميَّة, فضلًا عن الخشيَة من وصول أي تيَّار إسلامي للحكم فيقوم بعكس ما قام به العلمانيُّون حتى الآن طوال أكثر من مائة عام من تغريب المجتمع ومحاولة علمنتِه، حيث سيكون الفعْل الإسلامي بعكس ذلك كله طبعًا كما يخشى العلمانيُّون من أي قدر مناسب من التعبئة الشعبيَّة في اتجاه الفعل السياسي والاجتماعي والاقتصادي الإسلامي في مصر.

عبد المنعم منيب
نشرهذا الموضوع بموقع الاسلام تودي الاثنين 18 شوال 1431 الموافق 27 سبتمبر 2010

تعليقات