ثلاث ملاحظات على خلافة " البغدادي " و أداء الدولة الاسلامية في سوريا


أريد الكتابة عن تنظيم الدولة الإسلامية و في الحقيقة أنا لدي عدة ملاحظات و نظرات أساسية و مجملة بشأن تنظيم الدولة بعامة و الأخ أبي بكر البغدادي بشكل خاص و أسوقها في ثلاث ملاحظات على النحو التالي:

"الملاحظة الأولى"

أنا كمسلم سوي و عشت في قلب العمل الإسلامي منذ عام 1978 و حتى الآن لا أستسيغ أن يبايع شخص أميرا و ينضم لجماعة إسلامية ثم ينقلب عليها بدون مبرر شرعي فجأة و ينشق بقسم من أعضائها مكونا جماعة أخرى و حتى لو قرر أن يخرج من الجماعة فالذي تعلمته و تربيت عليه أنه لا ينبغي أن يشق الجماعة بل يخرج من الجماعة لوحده و لا يقلب أعضائها عليها ، لأن عكس ذلك هو ما يخلق الشقاق و الفرقة و يضعف العمل الإسلامي.. فما بالنا و الأخ أبو بكر البغدادي لم ينشق بجماعة عن القاعدة فقط بل عادى القاعدة بشكل عام و قاتلها في سوريا بشكل خاص و من المنتظر أن يقاتلها في أي مكان يقابلها فيه ما لم تدخل في طاعته..
هذه الملاحظة جوهرها أن هذا السلوك يعكس صورة غير مطمئنة عمن قام به و هو هنا الأخ البغدادي و كبار مساعديه لأن من يعمل لتكون كلمة الله هي العليا لا يهمه أن يكون أميرا أم غفيرا و لا يهمه أن تكون له جماعته الخاصة أم يعمل مع جماعة من المسلمين و لا يهمه أن يتحقق النصر باسمه و اسم جماعته أو حزبه أم باسم أي من المسلمين.. و لنا في هدي سيدنا خالد بن الوليد (سيف الله المسلول) و سيدنا أبي عبيدة بن الجراح (أمين الأمة) أسوة و هما من أعظم قادة المسلمين إلى قيام الساعة حيث لم يبالي أي منهما بتولي القيادة و ترك كل منهما القيادة للآخر فأبو عبيدة كتم قرار عمر بن الخطاب بعزل خالد لحين انتهاء المعركة منعا لأي خلل قد ينتج عن تنفيذه أثناء المعركة و لم يبال أن يتحقق النصر بقيادة و اسم خالد المعزول و ليس باسمه و بعد تنفيذ القرار أطاع خالد و عمل تحت إمرة أبي عبيدة بحب و طيب نفس و هذا هو هدي النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذ قال "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه فى سبيل الله أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان فى الحراسة كان فى الحراسة، وإن كان فى الساقة كان فى الساقة، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع" (رواه البخاري و ابن ماجه و ابن حبان و البيهقي عن أبي هريرة) و هذا السلوك هو الذي خلق للمسلمين القوة و العزة و المجد الذي بنوا به الخلافة الإسلامية الراشدة العظيمة و القوية و المرهوبة الجانب من العالم كله في عصرهم و التي نحلم بإعادتها حتى الآن , أما روح و سلوك "إما قيادتي و جماعتي أو قبيلتي أو حزبي و إلا فالاقتتال و الدمار" فهو سلوك ملوك الفرقة في العصر العباسي الثاني و ملوك الطوائف في الأندلس و هذا السلوك هو ما أوصلنا للضعف و الهوان الذي نعيشه حتى الآن، و هذا الضعف و الهوان لن ينتهي حتى ننتهي عن هذا السلوك المدمر الذي نهى الله عز و جل عنه فقال تعالى "وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ" (و الريح هي القوة و الدولة كما قال المفسرون).

"الملاحظة الثانية"

نمط أن يكون الولاء و البراء على البيعة لشخص محدد لم يتفق عليه الجميع و لا حتى الأغلبية و تراق الدماء من أجل هذا الشخص و تعتبر إراقة هذه الدماء جهادا إسلاميا أمر ليس في منتهي الغرابة فقط لكنه يثير شبهات و تساؤلات كثيرة حول هذا الشخص نفسه و حول كل من يطيعه في هذا السلوك.. و هذا السلوك متفرع عن السلوك السابق الذي انتقدناه في الملاحظة الأولى و يرد عليه نفس الانتقادات بنفس الأدلة الشرعية و التاريخية المذكورة في الملاحظة الأولى.. و يضاف إلى ذلك كله أن تصرف أخينا البغدادي بتنصيب نفسه أميرا تجب مبايعته و السمع و الطاعة له و إلا فالقتال و القتل (هذا منذ أكثر من عام و قبل إعلانه كخليفة) هذا السلوك لا يمت لسلوكيات الخلافة الراشدة بصلة.. قد يقول قائل: "بل حارب سيدنا علي بن أبي طالب معاوية و من معه لأنهم رفضوا بيعته" ، و هذا قياس في غير محله (قياس مع الفارق) لعدة أسباب أبرزها أن "على" بايعه كل أهل الحل و العقد أي ما يساوى أغلبية المسلمين لكن البغدادي لم يبايعه إلا أصحابه و تلامذته ، كما أن على (ر) كان من الطبيعي أن يكون الخليفة إذ كان أميز من في الأمة الإسلامية كلها وقتها و كان مرشحا للخلافة بعد عمر (ر) لدرجة أن قال عمر (ر) :"لو أردت أن أستخلف لاستخلفت "على بن أبي طالب" و سيحملكم على الجادة و لكن لا أتحمل وزرها حيا و ميتا.. اختاروا لأنفسكم" كما أن الخمسة الذين اختارهم عمر (ر) ليتم اختيار خليفته منهم كان أحدهم "على" و عندما جرت تصفية هؤلاء الخمسة لاختيار الخليفة منهم استقر الأمر على الاختيار من اثنين فقط هم على و عثمان رضي الله عنهما.. ثم تم اختيار عثمان خليفة.. إذن فبعد استشهاد سيدنا عثمان ليس في الأمة أحق بالخلافة سوى "على" ثم ثَبَّتَ المسلمون هذه الأحقية باختيارهم لسيدنا "علي" و مبايعته و أقر بيعته و أطاعه كل قادة جميع ولايات الدولة الإسلامية عدا معاوية في الشام.. فهل بعد هذا الشرح يمكن لأحد أن يدعي أن أخانا البغدادي في نفس شرعية على بن أبي طالب و يجب قتال و قتل من يرفض الدخول في طاعته؟؟
ثم نأتي إلى أمر في منتهى الخطورة و هو أننا في حالة غياب للدولة الإسلامية و الخلافة و قلوب المسلمين و أفئدتهم تحن إلى عودة عز المسلمين و مجدهم المتمثل في دولة و خلافة إسلامية راشدة على منهاج النبوة تحكم بالشريعة و قد تمكن مسلمون من الحكم في بقعة ما من أرض المسلمين فلماذا لا يقيمون الدولة الإسلامية؟
 و في الواقع هناك فرق بان تقول سأقيم دولة إسلامية تحكم بالشريعة على منهاج النبوة في مكان أنا ممكن فيه و بين أن تفرض نفسك أميرا أو خليفة على جميع المسلمين و نظرا لأن لا أحد ينازعك في دعواك "الإسلامية" غير الحركات الإسلامية المجاهدة فأنت تركز على إخضاع هذه الحركات بشكل أساسي فهم الذين سيمسون شرعيتك بينما المالكي أو بشار الأسد أو السيسي لن يدعي أحدهم أنه يحكم بالشريعة أو أن دولته هي الدولة الإسلامية (الخلافة) و من هنا فالبغدادي ينازع لإخضاع الحركات الإسلامية لخلافته و قاتل أحرار الشام و جبهة النصرة و حركات إسلامية أخرى في سوريا و أؤكد أنه سيقاتل أي حركة إسلامية أخرى ستكون في متناول رجاله ليخضعها لإمارته.. و هنا قد يرى البعض أنه لا مانع من ذلك فالرجل يريد أن يوحد المسلمين في دولة إسلامية واحدة و إعادة الخلافة و لذا سأدعو أخي أبي بكر البغدادي مرة أخرى للاحتكام إلى هدي النبي صلى الله عليه و آله و سلم حيث نبه سيدنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم الى كيفية التعامل مع مثل هذا الموقف (موقف الفرقة و النزاع بين المسلمين) فقال (مشيرا لسيدنا الحسن): "إن ابنى هذا سيد وإن الله سيصلح على يديه بين فئتين عظيمتين من المسلمين" (حديث صحيح رواه الطبراني و الطيالسي و غيرهما و بألفاظ أخرى رواه البخاري و أحمد و غيرهما و صححه الألباني في صحيح الجامع) فما السلوك الذي سلكه سيدنا الحسن بن علي و مدحه النبي صلى الله عليه و آله و سلم؟ لقد تنازل عن منصب الخلافة لمن هو أقل منه من أجل لم الشمل المسلمين و إيقاف التنازع بينهم.. علما أن الحسن كان خليفة للمسلمين انعقدت الخلافة له باتفاق أغلبية أهل الحل و العقد على اختياره و أيضا يشهد لخلافته قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: " خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتى الله الملك من يشاء" (حديث صحيح رواه أبو داود و الحاكم و غيرهما كثير) و قد اتفق السلف على أن الثلاثين عاما هذه انتهت بالستة شهور التي قضاها الحسن بن علي رضي الله عنهما في منصب الخلافة.. فالحسن تنازل و هو ابن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و هو خليفة اختاره أغلب المسلمين (أو لنقل أغلب الصحابة) و هو من شهد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم له بأنه خليفة على منهاج النبوة بالحديث الآنف.. و مع هذا كله تنازل عن منصبه من أجل لم شمل المسلمين و جمع كلمتهم.. ولم يقتل و يقاتل من خالفه لجمع الكلمة و لم شمل... فهل يتنازل أخونا البغدادي عن خلافته للم شمل الحركات الإسلامية مقتضيا بالحسن لعل مدح النبي للحسن يشمل البغدادي في هذه الحالة؟؟
 و يلاحظ أن هذا التنازل و إن بدرجات أخرى و في مجالات مختلفة فعله على بن أبي طالب عندما رضي بالتحكيم مع معاوية و أوقف الحرب و فعله النبي صلى الله عليه و آله و سلم عندما رضي أن يحذف لفظ رسول الله من نص معاهدته مع قريش.
طبعا من الوارد أن يقول قائل: يا عم أنت تتكلم في ماذا.. هذا البغدادي قهر الرافضة و أزاح قهرهم عن صدور السنة.. و إمارته أمر واقع فلماذا لا يكون للمسلمين دولتهم و عزتهم بقيادته لأنه يريد توحيد المسلمين و إقامة الدولة و الخلافة الإسلامية و بادر بذلك أولا؟
فأقول له من أراد أن يلم شمل المسلمين و يختار لهم خليفة حيث لا خليفة لهم فليقتدي بسيدنا عبد الرحمن بن عوف (ر) (أحد العشرة المبشرين بالجنة و من الصحابة الذين توفي النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو راض عنهم) اذ حدد عمر بن الخطاب خمسة ليختاروا بأنفسهم من بينهم واحدا يصبح خليفة للمسلمين خلفا لسيدنا عمر (و الخمسة هم عبد الرحمن بن عوف  و عثمان و علي و الزبير و طلحة) و اجتمع الخمسة فقال عبد الرحمن بن عوف من يخرج نفسه منها و يختار هو الخليفة؟ فسكتوا جميعا فقالعبد الرحمن بن عوف: "أنا أخرج نفسي منها و أتولى الاختيار"، و فعلا تنازل عبد الرحمن بن عوف عن حقه في منصب الخلافة كي يتولى جمع شمل المسلمين و يمنع أي خلاف حول منصب الخلافة و اختار هو الخليفة و عقد له البيعة... فهلا اهتدى أخونا أبو بكر البغدادي هو و مساعدوه بهدي عبد الرحمن بن عوف فيخرج نفسه من الإمارة و يسعى لجمع الحركات الإسلامية في سوريا و العراق على أمير تجتمع عليه القلوب و يرتضيه الجميع من غير جماعته و لا قرابته...
  
"الملاحظة الأخيرة"

ملاحظتي الثالثة و الأخيرة التي تساهم في تكوين معظم انتقاداتي وبالتالي تُكَوِن رؤيتي بشأن أبو بكر البغدادي و تنظيم الدولة الإسلامية هو اختياره قتال الإسلاميين و الجيش الحر في سوريا مع تركه مقاتلة جيش بشار بدرجة كبيرة (أو لنقل تأجيلها) و هذا لفت نظري و أثار قلقي بشدة لأن هذا يطعن في عقلية من اتخذ هذا القرار بشكل عام و في فهمه الاستراتيجي الإسلامي و إدراكه لمقتضيات الأمن الإسلامي بشكل خاص.
فمقتضيات الأمن الإسلامي و المصلحة الإستراتيجية الإسلامية تنحصر في قتال بشار لأنه ديكتاتور و لو انتصر فإنه سيقمع شعبه و بالتالي لن تتوفر حرية للعمل  الإسلامي و ذلك بعكس الجيش الحر لأنه لو سيطر فسيتيح حريات عامة تسمح بالعمل الإسلامي و دعوة الناس لتحكيم الشريعة.. فضلا عن أن بشار و من ورائه حلفائه هو الأقوى عددا و تسليحا فليس من المصلحة العسكرية أن تضعف معارضيه من الثوار سواء كانوا إسلاميين أو غير إسلاميين لأنك مهما بلغت من قوة فلن تبلغ وحدك القدرة على هزيمة بشار (و من ورائه حلفائه الإستراتيجيين.. روسيا و ايران و حزب الله) هذا إذا كنت تتخذ قرارك وفقا لمقتضيات الأمن الإسلامي و الرؤية الإستراتيجية الإسلامية لكن لو كنت تتخذ القرار وفقا لمصلحتك الشخصية فإنك قد تميل لاهمال بشار و التركيز على قتال الإسلاميين لأنهم هم من ينازعونك الشرعية الإسلامية و قتال الجيش الحر لأنه هو من ينازعك الشرعية الثورية فضلا عن أن قتالهم سهل لأنهم أضعف من بشار.. و في هذه الحالة أنت لا تعمل وفقا لمصلحتك الشخصية و مصلحة جماعتك فقط بل أنت أيضا تعمل تحت الحاح الوهم بأنك ستفرغ من الاسلاميين و الثوار ثم تنتقل لبشار فتقضي عليه و لكنك ستصحو فزعا من هذا الوهم و تصيح: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".
و الخلاصة أن تصرف تنظيم الدولة في سوريا يجعلهم من وجهة نظري مترددين بين وصفين أحلاهما مر فاما انهم يعملون لمصلحة شخصية أو انهم لا يفهمون أبسط أبجديات الأمن الإسلامي و الرؤية الإستراتيجية الإسلامية.. و سواء كان هذا أو ذاك فكلا منهما يمنعان أخانا أبي بكر البغداي من تولى إمارة الدولة الإسلامية..


عبد المنعم منيب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أقوم الآن بنقل هذه المدونة الى موقعي الجديد " الأمة اليوم " على الرابط التالي

http://moneep.alummah.today/


نقلت حتى الآن أغلب المحتوى الموجود هنا و مستمر في النقل حتى أنقل جميع المحتوى ان شاء الله تعالى .. و كل جديد سأكتبه سأنشره هناك و ليس هنا..


و إقرأ أيضا:

وجود و استمرار "الاخوان المسلمون" في مصر ضرورة إستراتيجية إسلامية
لماذا أصر على تقييم العمل الاسلامي و قادته و نقدهم ؟؟ و ما هدفي من ذلك ؟
قصتي مع " الإخوان المسلمون " من عمر التلمساني الى الرئيس محمد مرسي
أربعة عوامل تمكن المقاومة في غزة من تحقيق التوازن الاستراتيجي مع العدو
تجربة " أردوغان ".. إسلامية أم علمانية ؟و ما علاقتها بـ"الإخوان"؟ (3)
لماذا تنتصر المقاومة الفلسطينية في غزة على الاحتلال الصهيوني ؟؟
تجربة " أردوغان ".. إسلامية أم علمانية ؟و ما علاقتها بـ"الإخوان"؟ (2)
تجربة " أردوغان ".. إسلامية أم علمانية ؟و ما علاقتها بـ"الإخوان"؟ (1)

تعليقات