الإخوان المسلمون و اللعبة السياسية في مصر الآن

كلما اشتد القمع الحكومي ضد المعارضة السياسية في مصر اتجهت الأنظار إلى الاخوان المسلمين انتظارا لأن يتمكنوا من التصدي لهذا القمع و الاستبداد الحكومي باعتبار الاخوان هم اكبر قوى المعارضة و أقواها, و لكن في كل مرة يخيب ظن القوى الوطنية في الاخوان المسلمين.
عدد من رموز القوى الوطنية يرون ان الاخوان المسلمين يتخاذلون في مواجهة النظام الحاكم, أما الاخوان فيرون أنهم عاجزون عن التصدى للقمع الحكومي بطريقة و بدرجة يمكنها ايقافه.
هي معادلة قديمة قِدَم الاخوان و القوى الوطنية في حياتنا السياسية, فالقوى الوطنية تنظر لحجم الاخوان الظاهر على سطح الحياة السياسية, بينما الاخوان ينظرون لحقيقة قدرتهم الذاتية و قدرة النظام الحاكم على تصفية الجماعة عبر الوسائل الأمنية كما حدث أيام اغتيال حسن البنا على أيدي حكومة النقراشي و كذلك تكرر على أيدي جمال عبدالناصر و يمكن ان يتكرر على أيدي أي حاكم.
القوى الوطنية لا تلاحظ التواطؤ الدولي مع قمع اي تيار اسلامي في مصر و لا تلاحظ الفيتو الدولي على تولي أي قوة اسلامية للحكم في مصر بينما الاخوان يلاحظون ذلك كله.
و ادراك الاخوان المسلمين لكل هذه التحديات جعلهم يتقوقعون ازاءاها لا سيما و أنها تحديات معقدة يختلط بها عناصر الدولي و المحلي, البعض يحسن الظن بالاخوان المسلمين و يرى أنهم يصبرون حتى تزداد قدراتهم و يتحينون فرصة يأتي بها القدر فتتغير المعادلات الدولية و الاقليمية و من ثم تتغير معادلات السياسة الداخلية المصرية, البعض الآخر يسئ الظن بالاخوان المسلمين و يرى أنهم يقدمون مصلحة بقائهم ككيان على مصلحة المخاطرة بالسعي الجاد لتغيير النظام الحاكم.
على كل حال فإن اتهام الاخوان المسلمين أو الدفاع عنهم هنا لن يفيد لا الاخوان و لا المعارضة الوطنية و لا قضية الاصلاح السياسي في مصر, انما الذي قد يفيد هو التفكر و التأمل السياسي في سبل الخروج من الأزمة الراهنة الا و هي أزمة المعارضة المصرية كلها سواء الأحزاب او القوى المعارضة خارج الأحزاب و على رأسها الاخوان المسلمون.
فالأحزاب التي تم اختراقها من قبل الحكومة لا أمل فيها فهي صارت حكومية أكثر من الحكومة و صار قادتها اكثر استبدادا و ديكتاتورية من قيادة الحزب الحاكم نفسه, هذه الأحزاب سقطت من معادلة المعارضة واقعيا و لا يملك أي تصور لعمل معارض إلا أن يسقطها من حساباته المستقبلية اللهم إلا إذا طهر أحد هذه الأحزاب نفسه من عملاء الحكومة و تحول إلى خندق المعارضة الحقيقية.
أما أحزاب و قوى المعارضة الحقيقية من غير الاخوان المسلمين فهي ضعيفة و عليها أن تقوي نفسها عبر البناء التنظيمي الذي يتسم بالعلمية و الشجاعة على حد سواء, فالعلمية تعني الاهتمام بالخبرات و القواعد العلمية المعروفة التي ينبغي أن يقوم عليها عمل الأحزاب الجماهيرية مثل بناء القواعد الجماهيرية و التغلغل في قطاعات الشعب المختلفة في النقابات و الجامعات و المدارس و المصانع و المدن و القرى, و ذلك عبر الاختلاط المباشر بالجماهير و تنظيمها في هذه الأماكن, و الشجاعة التي نقصدها هي تحمل عواقب ذلك من مضايقات حكومية سوف تصل للاعتقال و لكن عليهم الاستمرار في عملهم كما يفعل الاخوان المسلمون و سائر التيارات الاسلامية فهذا العمل هو أحد العوامل التي وفرت القوة للاخوان المسلمين و غيرهم من الاسلاميين و تقاعس المعارضة عن هذا العمل الجماهيري خوفا من العواقب تارة أو جهلا بأهمية مثل هذا العمل تارة أخرى هو من أسباب ضعفها و تأخرها كثيرا عن الاخوان المسلمين و عن سائر الاسلاميين, و العمل عبر الانترنت الذي يركز عليه أكثر شباب المعارضة الآن لا يكفي لبناء حركات سياسية قوية هو فقط مجرد مرحلة تتلوها مراحل عديدة ربما هي أهم منه كما أنه يمثل أحد أدوات العمل و ليس كلها, فلابد من الالتحام المباشر مع الجماهير, و هذا الالتحام لا يتم عبر المظاهرات بل عبر التثقيف و التعبئة الشعبية كما قلنا, فقبل أن تطلب المعارضة من الجماهير المشاركة في مظاهرة أو اضراب لابد أن تقنعهم بجدوى و أهمية و أهداف العمل السياسي النضالي بكل صوره.
تبقى مشكلة الاخوان المسلمين هي الأعقد و الأهم على حد سواء, فالاخوان المسلمون أكثر قوى المعارضة تهيئا لخوض صراع التغيير السياسي و من ثم تسلم الحكم, لكن القمع الحكومي يمنع ذلك بتواطؤ دولي واضح, ففي هذه المعادلة عقبتان:
 عقبة القمع الحكومي الذي لا يقف عند حد و المستعد للذهاب لأبعد مدى مع اي قوة اسلامية بما في ذلك الاخوان المسلمين.
 عقبة التواطؤ الدولي مع هذا السلوك الحكومي المستبد الغاشم, هذا التواطؤ الذي يتم ترجمته لكل أشكال المساندة الدولية لهذا الاستبداد و القمع.
فكيف يمكن للاخوان المسلمين تجاوز هاتين العقبتين؟
عقبة القمع الحكومي لن يتسنى للاخوان تجاوزها إلا بتهيئة أنفسهم و حياتهم و منظماتهم لخوض صراع سياسي مرير و طويل سيكون سلميا من ناحيتهم بينما سيكون قمعيا جدا من ناحية النظام الحاكم, و اذا كان الصبر و المصابرة هما أهم السمات التي سيرتكز عليها الاخوان في هذا الصراع فإن الابتكار و المخاطرة لابد أن يكونا من أبرز أسلحتهم في هذا الصراع, يتحتم على الاخوان استخدام جميع الأوراق المتاحة في اللعبة السياسية الراهنة عبر هذا الصراع و لابد ألا يدخر الاخوان وسعا في الضغط على الحزب الحاكم بكل السبل و في كل مناسبة, بل عليهم اختلاق المناسبات و ابتكار السبل لتحقيق ذلك كله بشرط عدم التورط في أي عنف او مخالفة شرعية, لكن لن يمكنهم طبعا فعل ذلك الا بعدما يكونوا قد استعدوا لذلك و اعدوا للصمود و الاستمرار على ذلك, و لن يقوم الاخوان المسلمون بذلك كله ما لم يقتنعوا بأن الصراع (أي صراع) لا يمكن الانتصار فيه الا عبر المخاطرة المحسوبة و الابتكار و امتلاك زمام المبادءة دائما, كما ان الاخوان المسلمين لن يقتنعوا بخوض هذا الصراع أصلا ما لم يدركوا أنه لم يحدث أبدا عبر التاريخ أن تنازل مستبد أو ديكتاتور عن سلطاته و أرجعها لشعبه دون صراع سياسي محموم انتهى بهزيمة المستبد.
ليس من مصلحة الاخوان الاستمرار على حالتهم الراهنة لأنها حالة تتسم بالتميع في علاقتهم مع الحكومة من حيث أن الحكومة لا تدخر وسعا في قمعهم و استنزاف قواهم بينما هم مترددون في خوض الصراع الذي اصبح مفروضا عليهم من قبل الحكومة قبل أن يكون واجبا اسلاميا عليهم لازالة منكر الاستبداد الجاسم على صدر مصر منذ قرون, الاخوان المسلمون حتى يكون موقفهم السياسي واضحا ليس أمامهم سوى خيارين لا ثالث لهما إما التحالف مع الحزب الحاكم و الخضوع لشروط ذلك الحزب و اما الصراع معه, الحالة الحالية المترددة بين الصراع تارة (عبر الانتخابات و البرلمان و النقابات و الجامعات..ألخ) و الصمت و الكمون تارة أخرى حتى تمر موجة القمع الغاشم... هذه الحالة ليست في مصلحة الاخوان المسلمين و لا في مصلحة قضيتهم و أهدافهم و سيظل النظام الحاكم يستنزفهم و لن يني عنهم, و معروف أن الاخوان المسلمين كيان ملتزم دينيا و بالتالي لن يمكنه تقديم تنازلات للنظام الحاكم على حساب أهداف الجماعة و عقيدتها الاسلامية فلا يبقى أمامهم سوى الصراع السياسي من أجل عقيدتهم و أهدافهم.
أما عقبة التواطؤ الدولي مع الاستبداد الحاكم ضد التيار الاسلامي فمن المعلوم أن القوى الدولية تلوح دائما بامكانية التعاطف مع الاخوان بل مع وصولهم للحكم إذا ما عدَّلوا افكارهم و أهدافهم و تبنوا القيم الغربية في ثوب اسلامي الأمر الذي يحلو للبعض ان يعتبره بمثابة دعوة لظهور أردوغان جديد من بين الاخوان المسلمين في مصر, و لكن على كل حال فإن إخوان مصر شئ و حزب العدالة و التنمية في تركيا شئ آخر, و جماعة الاخوان في مصر كتلتها الرئيسية ملتزمة دينيا و لا يمكن أن تقدم على تنازلات دينية حتى لو كانت ذات صبغة سياسية و ما يقال عن معتدلين و متشددين داخل قيادة الاخوان المسلمين فهو فهم خاطئ لطبيعة التنوع في الاجتهاد الفكري و السياسي داخل الجماعة و هذا التنوع في واقع الأمر لا يعني بأي حال أن الجماعة ستقدم تنازلات عن ثوابتها الدينية الراسخة, و تجربة حزب الوسط ليست عنا ببعيد فبمجرد أن سحبت جماعة الاخوان المسلمين دعمها له ظهر حزب الوسط كقوة سياسية صغيرة و لا يمكن أن يضاهي بأي درجة من الدرجات جماعة الاخوان المسلمين فضلا عن أن يصير هو أو أي محاولة أخرى مشابهة له بديلا عنها.
و لكن قد يتمكن الاخوان المسلمون من تجاوز العقبة الدولية عبر التحالف الوثيق مع الأحزاب و القوى الوطنية التي تمثل المعارضة الحقيقة التي تكلمنا عنها في بداية الموضوع, لأن الاخوان لابد أن يدركو الخطأ الذي وقعت فيه حماس عند تشكيلها حكومتها الأولى في الضفة و القطاع, فقد اعمت نشوة النصر حماس عن ادراك حقيقة الأوضاع الدولية و الاقليمية, هل كان الموقف الدولي و الاقليمي من حكومة حماس سيكون هو نفس الموقف الحالي لو كانت القوى الوطنية الأخرى (من غير فتح) شاركت فيها بحجم مناسب و خاصة القوى ذات الصلات العربية و الدولية المرموقة؟
بالطبع لا.
هذا في الحالة الفلسطينية التي لا تتمتع قواها الوطنية بنفس الدرجة العالية من القبول الدولي و العربي الذي تتمتع به قوى وطنية مصرية كحزب الغد او حزب الجبهة أو حزب الكرامة (تحت التأسيس) او حركة كفاية أو تيار استقلال القضاء أو غيرهم.
إن الاخوان المسلمين لا يحتاجون لشراكة قوية و دائمة مع سائر قوى المعارضة الوطنية من أجل تجاوز عقبة عدم القبول الدولي و الاقليمي فقط بل أيضا من أجل أن الاخوان المسلمين تقع على عاتقهم مسئولية القيام بدور القاطرة لقوى المعارضة المصرية بكافة توجهاتها, فالاخوان المسلمون من مصلحتهم أن تزداد القوة الذاتية لهذه القوى المعارضة بالقدر الذي يتيح لها القدرة على معارضة النظام الحاكم و مناوءته و منازلته بقوة فهذا لن يخفف الضغط الحكومي القمعي عن الاخوان فقط بل أنه سيسهل مهمتهم في تحقيق عملية التغيير و الاصلاح السياسي, و تطوير قوى المعارضة هذه لقدراتها من الممكن أن يساعد و يشارك فيه الاخوان المسلمون بفاعلية و نجاح.
و بعد ذلك سيكون من السهل أن تستمر الشراكة حتى في حالة فوز الاخوان المسلمين بأغلبية مقاعد مجلس الشعب, فحتى في هذه الحالة من مصلحة نجاح اهداف و منهج الاخوان المسلمين ان يشركوا في مثل هذه الحكومة كل القوى المعارضة الحقيقية.
لكن تبقى هنا مشكلة أن بعض أو أكثر هذه القوى المعارضة ترفض التعاون مع الاخوان بشكل أو بآخر أو تشترط لقيام هذا التعاون شروطا يعجز الاخوان عن الوفاء بها, مثل رغبة هذه القوة أو تلك من قوى المعارضة في أن تضع جماعة الاخوان المسلمين كل امكاناتها تحت تصرف هذه القوة المعارضة في القيام بأعمال احتجاجية لا توافق عليها جماعة الاخون أو لا تقتنع بجدواها مثلما دعاها البعض للسعي لاسقاط النظام الحاكم عبر مظاهرة في القاهرة تزيد على المائة ألف و كان من المسلم به أن 99% من المتظاهرين مطلوب أن تحشدهم جماعة الاخوان لأنها هي الوحيدة التي يمكنها حشد مثل هذا العدد و هذا مجرد مثال على الأعباء التي كثيرا ما تطالب بها القوى الوطنية الاخوان المسلمين.
و غني عن البيان أن مزاج الشارع المصري يميل للناحية الاسلامية بدرجة أو بأخرى و من ثم فمستقبل النجاح السياسي الحقيقي تميل كفته للقوى الاسلامية أكثر من غيرها و بالتالي فمصلحة القوى الوطنية الليبرالية و القومية و اليسارية أن تدفع نحو تغيير سياسي متسامح يأخذ بعين الاعتبار خبرات و امكانات و علاقات هذه القوى في اطار من التنوع و التعددية حتى لو كان هذا التنوع و تلك التعددية في اطار من المرجعية الاسلامية التي يقودها الاخوان المسلمون.
و لا شك أن رفض هذه القوى للدور السياسي الاسلامى بدعوى الدفاع عن العلمانية أو الليبرالية ليس من شأنه أن يعرقل الاصلاح السياسي السلمي فقط بل إنه يهدد تطور هذه القوى الوطنية و يلقى بظلال قاتمة على مستقبل وجودها في الشارع السياسي المصري و بين صفوف القاعدة الجماهيرية العريضة و حينئذ سيقتصر وجودها على نخبة ضئيلة تتقابل في ردهات الفنادق المكيفة و تشرح أفكارها في الصالونات الفخمة في حراسة جنود الأمن المركزي بينما ستموج الشوارع حولها بصحوة لمعارضة اسلامية صلبة يكافحها النظام الحاكم و من ورائه من حلفائه الدوليين.
ان شراكة المعارضة الوطنية الجادة الصادقة مع الاخوان المسلمين ضرورة لكل من الاخوان المسلمين و المعارضة الوطنية بكافة أطيافها و هذا التحالف من المؤكد أنه سيكون في صالح انقاذ مصر من الحزب الديكتاتوري الحاكم, و يا ليت الوطنيون الحقيقيون من الحزب الحاكم نفسه يدركون ذلك و يدخلون في مثل هذه الشراكة للنهوض بمصر من الهاوية السحيقة التي تتردى فيها الآن.

عبدالمنعم منيب
كتبت هذا الموضوع لجريدة الدستور المصرية و نشر في عددها الأسبوعي الأربعاء 23 سبتمبر 2009م.

تعليقات