انطلق الكاتب من مقدمات صحيحة ليخلص إلى نتيجة فاسدة لا يؤيدها دليل مهما كانت مزاعمه.
يقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}البقرة178
و يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة179
و يقول: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}المائدة45
و يقول عز من قائل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }المائدة38.
و يقول عز و جل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ }النور2.
و يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }النور4.
و يقول تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }المائدة33.
فمن يمكنه الغاء هذه الآيات المحكمة الواضحة تحت زعم أن الحدود لم ترد إلا في عدد قليل من الآيات؟
هل يمكن الغاء صيام رمضان بدعوى أنه لم يرد فيه غير أربع آيات فقط في القرآن كله؟! أو هل يمكن لأحد أن يدعي عدم أهمية صوم رمضان لأنه لم تأت فيه غير أربع آيات؟!
في الواقع لقد راجت موضة أو تقليعة السعي لالغاء جوانب عديدة من أحكام الاسلام تحت شعارات و دعاوى مختلفة, فتارة تحت دعوى أن هذه الجوانب لم تثبت بغير الأحاديث و الأحاديث غير منطقية و تارة تحت دعوى منافتها لروح العصر ... إلى غير ذلك من الدعاوى و الآن نجد سعيا من قبل الكاتب لالغاء الحدود تحت دعوى أنها لم تثبت الا عبر عدد قليل من الأيات.
ومن المتفق عليه بين علماء الاسلام أنه لو وُجِد حكم شرعي لم يثبت بغير آية واحدة لوجب تطبيقه لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }البقرة208, و السِّلْمِ هنا هو شرائع الاسلام كما قال جميع المفسرين فنحن مأمورون بالقيام بشرائع الاسلام كلها, و ايضا فقد توعد القرأن من أمن ببعض الكتاب و أنكر بعضه بقوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} البقرة 85.
و الكاتب بدأ بالتقليل من أهمية الحدود بدعوى قلة عدد الآيات التي وردت بها ثم تذرع بذلك ليعلن الغاء الحدود اعتمادا على ذلك و على أن الله يقبل التوبة و كيف يقام الحد على من تاب حسب زعمه, و كذلك قاس جميع الحدود على حد الحرابة (قطع الطريق) بالغائها لمن تاب قبل القدرة عليه رغم أن أكثر الفقهاء وعلماء أصول الفقه قالوا بأن القياس لا يجرى في الحدود و حتى على رأي من يجيز القياس في الحدود فإنه قياس فاسد لأن حالة الحرابة غير حالة الجنايات الأخرى من قتل و سرقة و قذف و زني حسب ما قاله الامام أبو زهرة في كتابه الجريمة و العقوبة في الاسلام.
و الكاتب أراد توظيف أحكام ثابتة كأحكام التوبة و استحباب الستر على أهل الكبائر توظيفا في غير محله ليصل للنتيجة التي يريدها هو, و التي لخصها بقوله: "ألا يمكن أن يعد ذلك كله تقويضا و تقييدا لفكرة اقامة الحدود من الأساس فضلا عن المطالبة بها".
و هذه العبارة دليل على عدم فهم الكاتب لحقائق الشريعة و أحكامها, فمن أهم حقائق الشريعة أن أحكامها لا تعارض بعضها بعضا أبدا و الدليل على ذلك قوله تعالى {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} النساء82, و الاختلاف المقصود به هنا التناقض و التعارض.
و في صحيح البخاري (فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر حديث رقم 6289) عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أُسَامَةَ كَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةٍ فَقَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى الْوَضِيعِ وَيَتْرُكُونَ الشَّرِيفَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَقَطَعْتُ يَدَهَا", فكيف يقيم النبي صلى الله عليه و آله و سلم الحدود و يقول أنه لن يستثني منها جاني حتى لو كان الجاني ابنته فاطمة ثم يريد الكاتب أن نقوض الحدود؟!
و الكاتب باعتماده على جزء من أحكام الشريعة (قبول التوبة و استحباب الستر) ليلغي به جزءا آخر هو وجوب اقامة الحدود على الجناة يكون قد خلط الأمور بشكل عشوائي, فالشريعة الاسلامية نسق متكامل يكمل بعضه بعضا ليحقق حكمة التشريع و أهدافه, فالحدود ليست هي كل الشريعة , بل هي جزء من كل و قبول التوبة أو استحباب الستر كلها أجزاء من كل لتتكامل كلها في النهاية محققة حكمة التشريع, الحدود لم تشرع ليتم التوسع فيها على غير هدى ,فلو طبقت الحدود لن يكون عندنا مئات الآلاف من مقطوعي الأيدي أو المجلودين أو المرجومين بالحجارة بينما عندنا الآن مئات الآلاف من المسجونين على خلفية جنايات بالمفهوم الشرعي.
الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لم تطبق الحدود في عصره غير على عدد لم يتعد أصابع اليدين, فالحدود شرعت لتقوية الوازع النفسي لدى الشخص لئلا يرتكب الجريمة, لأنه سيتخيل اقامة الحد عليه كلما راودته نفسه بارتكاب جريمة, لكن الاجراءات المطلوب الالتزام بها كي تتوفر شروط اقامة الحدود تجعل من النادر اقامة الحدود لكنها تبقى كالسيف المعلق في غمده يخيف مع أنه قلما يقطع و هو في هذه الحالة.
الشريعة تعالج الجريمة بعدة وسائل منها اقامة العدل في كل شئ و توفير الأمن العام و تحقيق التكافل الاجتماعي و تيسير الزواج و احسان تربية الأفراد في البيت و الجامع و المدرسة و الشارع و النادي, مع فتح باب التوبة لمعالجة الأخطاء الفردية التي لا ينفك عنها بشر فالتوبة وسيلة لاعادة دمج المخطئين في النسق الاسلامي باعطائهم فرصة العودة لصفوف الشخصيات السوية و فتح أفاق الأمل لهم بدل من دفعهم لليأس.
أما استحباب الستر على العصاة و المخطئين فله عدة أهداف منها دفع أصحاب المعاصي للتخفي بمعاصيهم بدل المجاهرة بها و ذلك حفظا على نظافة البيئة الاجتماعية فكلنا نعلم أن المعصية أو الجريمة اذا تمت في الخفاء لم تضر غير صاحبها بينما لو تمت علنا فانها تصير بمثابة اعلان غير مدفوع الأجر عن المعاصي و الجرائم مما يشجع عليها و يكسر حاجز الخوف و الحياء لدى كل من يراها فيتجرأ على اقترافها, لأن العاصي لما يعلم أنه لو تخفى بمعصيته فلن يفضحه أحد غالبا فإنه يتخفى أما إن علم أنه مفضوح على كل حال فإنه لن يتخفى, و كذلك من فوائد استحباب الستر أنه يتيح باب التوبة للعاصي دون تعرضه لخطر اقامة الحد و الفضيحة و من ثم فهو يزيد عدد الذين يتم علاجهم نفسيا من جرائمهم بعيدا عن العقوبة و انما عبر الاقناع لأن الشريعة لا تريد أن يصير لديها المئات ممن يجب عليهم تطبيق حدود القتل و القطع و الرجم و الجلد.
و من الأمور التي سار فيها الكاتب على غير هدى فخلط الأوراق ببعضها البعض أنه لم يفرق في الحدود بين ما هو حق لله كترك صيام رمضان و ما هو حق للعباد و لله في آن واحد كالقتل العمد و الخطأ و الجروح و السرقة و الاغتصاب الجنسي, و من المجمع عليه بين العلماء أن التوبة ممكنة و بابها مفتوح في كل وقت بشأن حق الله الخالص أما حقوق العباد فلا تقبل فيها التوبة الا بعد اعطاء العباد حقوقهم أو يسامحوا فيها طواعية, فكيف نقوض الحدود بالتوبة في حقوق العباد دون رضا أصحاب الحقوق, هل يمكن أن نقول لأهل القتيل أو الأنثى التي خطفت و اغتصبت أو صاحب المال الذي تم نهبه أجرك على الله و لاجزاء على الجاني لا في الدنيا و لا في الأخرة لأنه تاب؟!
ثم لم يخبرنا الكاتب كيف سيكون حال القانون و دولة القانون إذا طبقنا مبدأه من أن الجاني إذا تاب سقطت عنه العقوبة؟ هل سيذهب الجاني لبيته قرير العين أم سيحاول أصحاب الحقوق المعتدى عليها أن ينتقموا منه بأيديهم مادام القانون لم يقتص لهم؟ أم أن الكاتب يريد فقط أن يقوض العقوبات التي نص عليها القرآن و يحل محلها عقوبات من بنات أفكار البشر... هل أحكام البشر أولى من العقوبات التي حددها الواحد الأحد في قرآنه رغم أنه تعالى قال عن نفسه {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} فاطر31؟! أم أن المشرعين من البشر أرحم بالناس من الله تعالى رغم أنه تعالى أخبر عن نفسه أنه {رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ }آل عمران30.
و العجيب أن الكاتب ختم مقاله بالتساؤل" لماذا يجعل المسلمون تطبيق الحدود قضيتهم الوحيدة؟" ليوضح لنا أنه يخلط الأوراق ليس في أبواب الفقه و أصول الفقه فقط بل أيضا في توصيفه للواقع فالحركة الاسلامية سواء سلفية أو غيرها لم تقل أبدا بأن تطبيق الشريعة الذي تطلبه هو الحدود وحدها و أتحدى الكاتب أن يأتي بنص موثق لأحد مشايخ السلفية المعروفين يقول بأن تطبيق الشريعة الذي يطالب به هو تطبيق الحدود وحدها, هذا فضلا عن أننا لوقلنا جدلا أن تطبيق الحدود مطلوب وحده فالحدود لها أحكامها و اجراءاتها الجنائية التي تجعلها جزء من منظومة متكاملة قائمة على احكام الشريعة كلها بشمولها فعلى سبيل المثال لا يمكن تطبيق حد السرقة على فقير جائع أخذ شيئا بسيطا ليقتات منه و لم توفر له الدولة ما يقيم شأنه, و هكذا كل حد من الحدود له أحكامه لأنه مجرد ترس في منظومة متكاملة.
عبدالمنعم منيب
كتبت هذا الموضوع لجريدة الدستور المصرية ردا على صحفي كتب مهونا من قيمة الحدود في الشريعة و يطالب بغض الطرف عن المطالبة بتطبيقها و نشر مقالي مع مقال ذلك الصحفي بالعدد الاسبوعي لجريدة الدستور في 7 أكتوبر 2009م.
تعليقات
إرسال تعليق