ورطة التيار الإسلامي في مصر


" الانسداد السياسي في مصر يقود إلى الاحتقان ، والاحتقان يؤدي للعديد من الأزمات ، تبدأ من تمديد الفترة الانتقالية وتنتهي بالانفجار ، وبين التمديد والانفجار يتحرك المجلس العسكري من أجل تكريس نفوذه في مصر"
هذا هو ملخص المشهد السياسي المصري بعد أكثر من عام على الثورة.
لم يكن أشد المتشائمين في مصر يظن أن الثورة العظيمة التي بهرت العالم بأسره وصارت ملهمة لكثير من الباحثين عن الحرية في العالم ، ستنتهي إلى هذا المشهد القاتم من التخوين والتناحر والأزمات العنيفة ، كما يحدث اليوم في مصر ، فأحلام الباحثين عن الحرية والعدالة الاجتماعية وتطبيق الشريعة والشرعية الانتخابية آخذة في التبدد والتحول إلى كوابيس متلاحقة ، وبعد استبعاد أقوى المرشحين الإسلاميين أصبح التيار الإسلامي الممثل بالعديد من الأحزاب السياسية على رأسها الحرية والعدالة والنور في ورطة حقيقية ، وقد ضاقت خياراتهم التكتيكية ، ونفدت أساليبهم السياسية في مواجهة مخططات وألاعيب المجلس العسكري الذي أبدى كفاءة منقطعة النظير في إدارة الصراع السياسي مع الأحزاب الإسلامية التي لم تتعامل بجدية كافية مع دسائس ومؤامرات العسكر الذين سلموا ملف إدارة البلاد خلال الفترة الماضية إلى المخابرات .
وحقيقة ؛ إن التيار الإسلامي قد وقع في العديد من الأخطاء التكتيكية والإستراتيجية على حد السواء خلال الفترة الانتقالية ، وهذه الأخطاء هي التي مكنت المجلس العسكري بالتعاون مع القوى العلمانية والليبرالية التي ترى في الحكم العسكري بديلا مفضلا ودائما عن الحكم الإسلامي ، مكنتهم من تضييق الخناق على التيار الإسلامي وإجهاض مكتسباته القليلة التي تحققت بعد الثورة ، ومن أبرز الأخطاء التي وقع فيها التيار الإسلامي:
أولا : نظرته الإستراتيجية القاصرة تجاه تفكيك مراكز القوى في نظام مبارك ، فقد غض التيار الإسلامي عموما والإخوان خصوصا الطرف عن تفكيك هذه المراكز التي كانت تعاضد وتناصر نظام مبارك ، وذلك من باب المصالحة وفتح صفحة جديدة مع هذه القوى ظنا منهم أن هذه المراكز ستعمل لصالح البلاد ، وهم بذلك قد برهنوا على سذاجة سياسية كبيرة ، حيث أن من أبجديات البناء المؤسسي في مرحلة ما بعد الثورات والحكم الجديد ؛ تفكيك مراكز القوى القديمة التي ولاؤها دوما يكون للنظام الفاسد الذي اصطنعها ونمّاها ، فهي مراكز تربت ونشأت في بيئة فساد واستبداد ، وبالتالي لن توافق على العمل في أجواءنظيفة أبدا ، وستعمل جاهدة نحو إعادة النظام السابق بأساليبه ونظمه وطرقه الفاسدة التي تحقق لها منافعها ومصالحها الخاصة ، وقد ظهر جليا أثر هذا الخطأ في تعويق هذه المراكز لعملية التحول الديمقراطي السوي في البلاد، فالسلطة التنفيذية ممثلة في حكومة الجنزوري وعصام شرف من قبله ، تفننت في اختلاق الأزمات الطاحنة التي سببت حالة من السخط الشعبي على السلطة التشريعية التي في مجملها بيد التيار الإسلامي ، والمناصب الحيوية الهامة مثل مشيخة الأزهر والإفتاء ورؤساء تحرير الصحف وكبار الإعلاميين الرسميين وأصحاب المحطات الفضائية الخاصة ورجال الأعمال وغيرهم ممن كان له مصلحة في بقاء نظام مبارك ، كل هؤلاء أجهضوا أو عطلوا كل مشاريع الإصلاح والنهضة للتيار الإسلامي ، وما حدث من انسحاب العلمانيون والليبراليون ورؤساء النقابات والرسميين من تأسيسية الدستور بعد موافقتهم على نظامها مسبقا خير دليل على أن هذه المراكز القديمة لا تريد خيرا للبلاد أبدا ، ولا تريد إلا مصالحها والنظام الذي يراعى هذه المصالح .
ثانيا : الإصرار على إنهاء الحالة الثورية في مصر ، فقد تبني التيار الإسلامي فكرة إخلاء الميادين من الثوار والمحتجين بحجة تهدئة البلاد وتحقيق الاستقرار والالتفات للتعمير ، وبناء مؤسسات الحكم الراشدة ، وكلها أهداف مشروعة وغايات محمودة ، ولكن الذي غفل عنه التيار الإسلامي عموما والإخوان خصوصا ، هو القراءة الفاحصة لأثر هذه الحالة الثورية ليس على الشارع المصري فحسب ولكن على المجلس العسكري المتحكم الفعلي في البلاد ، فقد رأينا أن المجلس لم يخش على الحقيقة من أي قوى سياسية أو أحزاب إسلامية أو جماعات دينية قدر خشيته من ثوار الميادين ، لذلك وجدنا العسكر قد استجابوا لطلبات ثوار التحرير عدة مرات ، حتى أن ثوار التحرير قد أسقطوا ثلاث وزارات متتالية ، في حين أن البرلمان فشل في إسقاط حكومة الجنزوري حتى الآن ، وحين خف الزخم الثوري قليلا بسبب سياسات التيار الإسلامي الرامية لإنهاء الحالة الثورية ، استفرد العسكر بالثوار وكشفوا عن وجههم القبيح وفتكوا بالثوار بصورة مروعة في محمد محمود ومجلس الوزراء وما بعدها غير مبالين برد الفعل الداخلي أو الخارجي لأنه قد ضمن سكوت التيار الإسلامي، ومع إقرارنا بأن خروج الإسلاميين من الميدان أبقاه رهينة بيد الغوغاء وأصحاب المؤامرات والضائعين والمخدوعين ، وقد ظهر أثر هذا الخطأ الاستراتيجي الفادح على مستقبل الحياة السياسية في مصر ، ففي حين كان ضغط الشارع يحرك العسكر سريعا والاستجابة له شبه فورية ، نجد أن ضغط البرلمان المنتخب بصورة شرعية بلا أثر على العسكر ، وانتبه التيار الإسلامي أخيرا أن شرعية البرلمان لا يمكن أن تغرد وحدها بعيدا عن ضغط الميدان ، لذلك وجدنا التيار الإسلامي يعود للميدان بكل ثقله لإدراك خطئه الفادح الذي وقع فيه الدراسة الواعية والعميقة لأثر الشارع وردود فعل العسكر تجاهه .
ثالثا :  الثقة الزائدة في القدرة على احتواء الأزمات ، فقد واجه التيار الإسلامي عدة أزمات خلال الفترة الانتقالية بعضها كانت من صنع يديه وبسبب أخطائه التي وقع فيها والتي ذكرنا طرفا منها ، وبعضها الآخر لم يكن له فيها دخل ، بل افتعلت له افتعالا لتعيقه وتعطل مسيرته ، وفي كلا النوعين من الأزمات تعامل التيار الإسلامي بقدر كبير من الثقة الزائدة التي وصلت لحد الغرور في معالجة هذه الأزمات ، والوثقية الزائدة بالقدرات التنظيمية والإدارية لدى التيار الإسلامي دفعته لئن يتجاهل أثر هذه الأزمات ويظن مقدرته على احتوائها ، فأزمات التيار الإسلامي اليوم ليست من جنس الأزمات الدعوية التي مر بها من قبل والتي عادة ما كانت تنتهي لصالح الجماعة الأم ، فأزمات ومشاكل التيار الإسلامي اليوم تحتاج قدرا كبيرا من العناية والتركيز والمبادرة والتحرك السريع لاحتوائها قبل استفحالها ،  لنأخذ مثالا على ذلك ؛ فقد بدأت وسائل الإعلام في اصطياد الأخطاء والتركيز على السلبيات وتضخيم الصغائر منذ فترة طويلة ومع ذلك ظل إعلام التيار الإسلامي إعلاما متخلفا فاقدا للمهنية والاحترافية غير مواكب للحدث ، التيار الإسلامي الذي يستطيع فتح عدة قنوات فضائية تعبر على أجندته وتكون منابر إعلامية للرد على هجوم الإعلاميين الرسميين ظل متجاهلا لأثر الحملات الضارية ضده ، ويثق ثقة زائدة في مكانته عند المواطنين وأنهم لن يصدقوا هذه الأكاذيب والافتراءات ، فإذا بهذه المكانة وفق آخر الاستطلاعات الميدانية تتعرض لهزات شديدة وآخذة في التآكل ، بحيث كشفت آخر الاستطلاعات أن انتخابات مجلس الشعب لو أجريت اليوم في مصر لما حاز الإسلاميون نصف المقاعد التي حصلوا عليها من قبل ، ومن أمثلة الثقة الزائدة عن الحد لدى التيار الإسلامي هو عدم إحساسه بأنه قد تلقى هزيمة مروعة في صراعه السياسي مع المجلس العسكري ، وأن العسكر قد أجهضوا مكتسبات الإسلاميين القليلة تماما ، ونجحوا باقتدار وبالقانون في تشويه صورة الإسلاميين ، ودفعهم نحو اتخاذ خطوات ساذجة وانفعالية تزيد من ورطتهم السياسية في المرحلة الانتقالية ، هذه الثقة جعلت التيار الإسلامي يتلكأ كثيرا قبل التفكير في النزول إلى الميادين مرة أخرى ، أملا في استعادة خسائره السياسية أمام العسكري .
التيار الإسلامي في مصر في ورطة كبيرة بسبب هذه الأخطاء الإستراتيجية التي مكنت المجلس العسكري من التلاعب بالقوى السياسية الإسلامية وتحطيم مصداقيتها وشل حركتها، والإطاحة بأقوى مرشحيها الواحد تلو الأخر ، في حين أن الروشتة العاجلة للخروج من هذه الورطة هي النزول إلى الميادين للضغط بمنتهى القوة ، من أجل هدف واحد لا غير ، وهو رحيل العسكري فورا ، والحذر من مكائده التي ترمي لإبقاء الصراع سياسيا ، لأنهم أي العسكر قد أبدوا مهارة فائقة في هذا المجال ، والعسكر منتصرون والإسلاميون خاسرون لا محالة لو بقى الصراع سياسيا ، لو كتب الدستور أولا سيخسر الإسلاميون  لأنه سيكتب تحت ضغط العسكر وفي غياب الإسلاميين الذين يجري استبعادهم الآن من تأسيسية الدستور ، بالتالي سينال العسكر المكانة التي يريدها ، ولو حاول الإسلاميون تعويق الاستفتاء على الدستور، بتحريض الشعب على رفض الدستور ستتمدد الفترة الانتقالية ، ويتكرر سيناريو 54 ، أما لو جرت الانتخابات الرئاسية أولا ، فسيكون الانتخاب بلا دستور أي على دستور 71 والصلاحيات المطلقة للرئيس ، الذي يجتهد العسكر من أجل أن يكون رئيسا من الفلول ، تكون أولى قراراته حل البرلمان بغرفتيه ، وبالتالي يخسر التيار الإسلامي مكتسباته الوحيدة التي نالها بعد الثورة ، لذلك فالتيار الإسلامي في ورطة حقيقية ، ليس منها خروج سوى بالعودة إلى الميادين بروح 25 يناير ، وهي الوحيدة القادرة على الإطاحة بالعسكر من المشهد السياسي .

شريف عبد العزيز
نقلا عن 

تعليقات