جَرَت الانتخابات البرلمانية المصريَّة منذ أيام في جوٍّ من الخلاف بين عددٍ من قوى المعارضة المصريَّة، حيث رأت أحزاب الوفد والتجمع والناصري، بالإضافة لجماعة الإخوان المسلمين، خوض الانتخابات رغم عزم الحكومة على تزويرها مع عدم وجود ضمانات حقيقيَّة ضد التزوير, وفي نفس الوقت رأت قوى سياسيَّة أخرى مقاطعة الانتخابات من منطلق غياب أي ضمانات ضد التزوير، وكان على رأس هذه القوى المقاطعة حزب الجبهة الديمقراطيَّة والحركة المصريَّة للتغيير وحركة شباب 6 إبريل ونحوهم من حركات المعارضة الجديدة, وبعد إتمام عمليَّة الانتخابات بتزوير كاسحٍ لصالح الحزب الحاكم أنتج فوزه بنسبة تزيد عن 96% من مقاعد البرلمان وعدم فوز المعارضة إلا بمجموع مقاعد لا يتعدَّى عددها عدد أصابع اليد الواحدة، ومن ثَم انسحاب الوفد والإخوان المسلمين والناصريين من جولة الانتخابات الثانية... اليوم بعد ذلك كله هناك سؤال يطرح نفسه: هل أخطأ الإخوان المسلمون والوفد وغيرهم من قوى المعارضة لأنهم شاركوا في الانتخابات البرلمانيَّة الأخيرة؟!
لنبدأ الموضوع من أوله بعدد من الأسئلة الموحيَة، في حالة ما لو أن المعارضة مجتمعةً كانت قد قاطعت الانتخابات فهل كانت الحكومة وحزبها سيشعران بالإحراج من ذلك؟ وحتى لو شعرا بمثل هذا الشعور فهل كان سيؤدي ذلك لأي تغيير في سياسات الحزب الحاكم وحكومته؟
وطبعًا الإجابة تأتي بالنفي في كل الأحوال, فلا الحكومة ولا حزبها كانا سيستحيان من المقاطعة ولا كانت المقاطعة ستغيِّر سياسات الحكم.
إذن فماذا لو كانت المقاطعة تم إعلانها من كل قوى المعارضة فهل كان ذلك سيجعل لجان الانتخابات كلها خاويةً بشكلٍ وبدرجة تُجبر الحكومة على إلغاء العمليَّة الانتخابيَّة برمتها أو على الأقل تأجيلها لحين استرضاء المعارضة؟
بالطبع لا, فلا اللجان كانت ستفرغ ولا العمليَّة الانتخابيَّة كانت ستؤجل، وحتى لو فرغت اللجان الانتخابية ما كان ذلك ليوقف التزوير ولما كان سيسبب أي حرج من أي نوع للحكومة.
دعاة المقاطعة من أول جولة يظنون أن للمقاطعة فائدة من حيث أنها ستحرج الحكومة وتعريها, ولكن حقيقة الأمر أن هذا وهمٌ كبير لأن الحكومة عريانة وعورتها السياسيَّة مكشوفة أمام الداخل والخارج على حد سواء، ومع ذلك فالحكومة لا يهمُّها ذلك لأنه لا يؤثر عليها أي تأثير, فالداخل عاجز عن تغييرها أو حتى الضغط عليها بفاعلية والخارج لا يعبأ برغبات الشعب، ما دامت رغبات الولايات المتحدة وإسرائيل يتم تلبيتها على أكمل وجه.
وبناءًا على ذلك كله فالمقاطعة من الجولة الأولى لم يكن لها فائدة ذات بال، اللهم إلا إبراز موقف مبدئي بشكلٍ رمزي قوي, ويكفي لتحقيق هذا الإبراز الرمزي ما قام به كلٌّ من حزبي الوفد والناصري وجماعة الإخوان المسلمين من إعلان مقاطعة جولة الإعادة من الانتخابات.
وهنا لا بدَّ أن ننتبه لثلاثة أمور هامة:
الأول- أن السياسيين في عالمنا العربي (بما فيهم سياسيو الحركة الإسلامية) ما زالوا متأثرين بالإرث السياسي القومي والناصري الذي يعوِّل كثيرًا على المواقف الرمزية والشعارات الموحية التي تخاطب الوجدان والعواطف أكثر من التركيز على البعد الاستراتيجي (أو النظرة الشاملة بعيدة المدى) للتفكير السياسي مع الارتكاز على نظرة سطحيَّة للواقع أكثر من التعمُّق في فهم الحجم الحقيقي كمًّا وكيفًا للفرص المتاحة في ذلك الواقع, وكل هذا الخَلَل في التفكير السياسي والاستراتيجي لسياسيينا هؤلاء تغطيه شعارات برَّاقة تجيد مخاطبة وإرضاء وجدان وعواطف كثيرين ممن أغضبت مشاعرهم مشاهد الخزي والعار التي تكلّل واقعنا المرير.
الثاني- أن بجانب غياب الرؤية الاستراتيجيَّة لدى سياسيينا هناك غيابٌ لتصور تكتيكي مناسب لواقعنا الحالي ومشكلاته المتأصلة، وأبرز مظهر لغياب هذا التصور التكتيكي هو غياب الترتيب الصحيح لأولويَّات العمل السياسي, ففي الوقت الذي تعاني فيه قوى المعارضة في بقاعٍ عديدة من عالمنا العربي والإسلامي من ضعف هيكلي وتقلص في قواعدها الجماهيريَّة المنظَّمة فهي رغم ذلك تقدم أولويات العمل النضالي والدخول في خضمّ معارك الصراع السياسي على أولويَّات معالجة جوانب ضعفها الهيكلي في مجالات العمل الجماهيري والبناء السياسي والتنظيمي.
الثالث- أن دخول الانتخابات في حالة مثل حالة مصر هو عمل هام بالنسبة للمعارضة؛ لأنه يتيح لها التواصل مع الجماهير عبر المؤتمرات الجماهيريَّة وتوزيع المنشورات والمواد الدعائيَّة والتواصل الشخصي مع الجماهير, في وقتٍ تكون كل هذه الأمور محظورةً في غير وقت الانتخابات وتعرّض فاعلها لمشاكل قانونيَّة وأمنيَّة كثيرة, كما لا يمكن للقوى المقاطعة للانتخابات أن تقوم بها, وهذا التواصل الجماهيري لا بدَّ أن له ثماره التي يتحتم أن يتمَّ استثمارها ليس فقط في العملية الانتخابيَّة ولكن أيضًا في عمليات التجنيد والتثقيف السياسي والبناء التنظيمي لقوى المعارضة المشاركة, فضلًا عن كسب مساحات واسعة من الرأي العام لصالح الموقف المعارض, وربط اتجاهات هذا الرأي العام بقوى المعارضة بحيث تحركه من حين لآخر على النحو الذي يخدم قضايانا الإسلاميَّة المتعددة, كما أن من فوائد المشاركة في العمليَّة الانتخابيَّة تدريب كوادر المعارضة على العمل الجماهيري وجوانب من العمل التنظيمي والسياسي والإعلامي مع إثقال خبرات الكوادر الأخرى التي سبق لها وأن تدربت على هذه الجوانب.
ومن هنا فالفوائد العائدة من المشاركة في العمليَّة الانتخابيَّة في جولتها الأولى بمصر مؤخرًا أكبر من الفوائد التي يدَّعيها البعض بشأن المقاطعة, كما أن مقاطعة الجولة الثانية التي أعلنها الإخوان المسلمون والوفد والناصريون أكملت هذه الفوائد، من حيث أن العمل الجماهيري في الإعادة كان سيقتصر على ما مجموعه لا يزيد عن 35 دائرة أي حيِّز جغرافي ضيق لا يستحقُّ المشاركة، وفي نفس الوقت حقق الموقف الرمزي الذي سعى له المقاطعون منذ بداية الجولة الأولى.
وهذا المقال طبعًا هو بشأن الحركات الإسلاميَّة التي ترى جواز المشاركة في العمليَّة الانتخابيَّة من الناحية الشرعيَّة, أما الحركات الإسلاميَّة التي ترى عدم جواز ذلك فهذه لا بدَّ أن تكون لها أدواتها التكتيكيَّة الأخرى التي تحقق لها أهدافها في العمل السياسي والجماهيري والإعلامي وعمليات كسب الرأي العام وتوجيهه وتدريب كوادرها على ذلك، وهذا موضوع آخر جدير أن يفرد بالتحليل والتأمل.
عبد المنعم منيب
هذا الموضوع تم نشره في موقع الاسلام اليوم
الثلاثاء 01 محرم 1432 الموافق 07 ديسمبر 2010
السلام عليكم،
ردحذفوجهة نظر محترمة، ولكن المشاركة أيضا تعني أضفاء الشرعية على نظام غير شرعي والمشاركة في مسرحية الديموقراطية المزعومة.
ياسر