الانتخابات المصريَّة والمشهد الدعوي في العالم الإسلامي

الانتخابات النيابيَّة المصرية التي تجري خلال ساعات وما تشهده من تجاذبات سياسية ودينيَّة، لا سيما مع اشتراك حركة إسلاميَّة كبرى (وهي حركة الإخوان المسلمين) في هذه العمليَّة تثير العديد من التساؤلات حول المشهد الدعوي والإعلامي للحركة الإسلاميَّة في العالم الإسلامي, ولئلا ندخلَ في تفصيلاتٍ كثيرة لا تحتملها مساحة هذا المقال فإننا سنتخذ من الحالة المصريَّة مثالًا لما هو عليه واقع الدعوة والإعلام الإسلامي في العالم الإسلامي كله.

لقد نجحت النظم السياسية القائمة في مصر منذ الاحتلال البريطاني 1882م في ترسيخ توازن قُوَى مجتمعي قائم على وجود نسبة محدودة من المتديِّنين (الذين بات يُطلق على نُشطائهم اسم "الإسلاميون" لا تملك القيام بتأثير فعَّال في مُجريات الأمور العامَّة مهما كان نشاطها وارتفاع صوتها, مع وجود نخبة محدودة من العلمانيين لكنهم يملكون مقاليد السلطة والقوة، بينما بقية المجتمع هم كتلة صامتة وسلبيَّة إزاء الشئون العامة، خاصة شئون الحكم والسياسة, وكلما لاح في الأفق نذير اختلال لهذا التوازن فإن القوى العلمانيَّة الداخليَّة والخارجيَّة الساهرة عليه تقوم بإعادة التوازن إلى سابق عهده بالحيلة حينًا وبالقوة والقمع في أغلب الأحيان, مع ملاحظة أن هذا القَمْع قد يتستَّر بغطاء من القوانين والقرارات الرسميَّة.

فالدعوة الإسلاميَّة الصحيحة أو الدعوة التي يحتاجها الإسلاميون هي التي تحقق اختراقًا حقيقيًّا لحالة الانحراف الاجتماعي العامة الموجودة في واقعنا, فالدعوة الإسلاميَّة التي لا تخلُّ بالتوازن المجتمعي والسياسي الحالي ولا تحوِّله لصالح الإسلام هي دعوة ضعيفة وعاجزة.

الدعوة الإسلاميَّة التي قامت بها الحركة الإسلاميَّة في مصر بمختلف فصائلها طوال القرن الأخير تحركت في أغلب الأوقات في إطار لم يهددْ هذا التوازن القائم, فالدعوة لم تنجح في اختراق المنظومة المسيطرة على مقدرات القوة السياسية في البلاد اللهم إلا في حالات نادرة، وحتى في الحالات النادرة التي نجحت في ذلك فإن المدعو عادةً ما نجده قد زهد في مكانته الاجتماعيَّة أو السياسيَّة، وتخلَّى عنها ظنًّا منه أن هذا من مقتضيات الالتزام الإسلامي، فتخلى بذلك عما كان يملكه من قوَّة.

وكذلك فالحركة الإسلاميَّة لم تنجح في تحقيق اختراق واسع وفعَّال للكتلة الصامتة من أغلبيَّة الشعب, وربما كاد هذا الاختراق أن يحدث مرةً واحدةً في تاريخنا المعاصر في نهاية السبعينيَّات من القرن الميلادي الماضي، بفعل الحركة الدعوية التي قامت بها كل من "جماعة التبليغ والدعوة" ومجموعات إسلاميَّة عديدة استخدمت التكتيكات الدعوية لـ "جماعة التبليغ والدعوة" مع إدخال بعض التعديلات الفقهيَّة لتلافي أخطائهم في هذا المجال, لكن سرعان ما أدت أحداث الصدام مع النظام الحاكم بجانب عوامل عديدة إلى ترسيخ سياسات حكوميَّة تقيد حركة الدعوة بصفة عامة وتمنع هذه التكتيكات بصفة خاصَّة, وذلك كله في إطار استراتيجيَّة حكوميَّة ضد الحركة الإسلاميَّة مستمرَّة بشكلٍ واضح منذ عام 1986 وحتى الآن، وهي أشبه ما تكون بمزيج من استراتيجيتَي "الاحتواء" و"الردع المرن" المعروفتَيْن في استراتيجيَّات الصراع الدولي.

وقد يظن البعض أن الإنترنت والفضائيات أتاحا فرص تحقيق اختراق دعوي لكل من الأغلبيَّة الصامتة والنخبة العلمانيَّة ذات القوة السياسيَّة, لكن حقيقة الأمر أن هذا مرهون بتطوير هاتين الوسيلتين لأنهما على الوضع الحالي سيوصلان الدعوة لهذه الفئات لكنهما لن يحققا عمليَّة التحوُّل السلوكي الحقيقي؛ لأن هذا التحول يحتاج خطوات وتكتيكات أخرى عديدة مكملة تقوم على أساس خطوات وأنشطة عمليَّة وواقعيَّة.

ولا بدَّ في العمل الإعلامي الإسلامي من ملاحظة أن الإعلام هو في حد ذاته أحد أهم أدوات العمل السياسي, فعبره يتمُّ الضغط على الخصوم والدفاع عن الأنصار والمستضعفين وتحقيق العديد من الأهداف السياسيَّة.

والفضائيَّات الإسلاميَّة على كثرتها النسبيَّة مقتصرةٌ على الجوانب الدعويَّة والتعليميَّة ولا تقوم بدور سياسي إيجابي كافٍ، بل بالعكس فهي في بعض الحالات تقوم بدور سلبي سياسيًّا عندما تحاول سحب الناس من عالم الأسباب السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة إلى عالم التواكل (الضار سياسيًّا بلا شك) تحت دعوى الصبر والاعتماد على الطاعة (التي من قبيل العبادات) والدعاء فقط لرفع البلاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي, وذلك بالمخالفة لصحيح الفقه الذي يشير إلى أنه لا تنافٍ بين الأخذ بالأسباب السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة وبين الصبر والدعاء وتحصيل الطاعات التي من قبيل العبادات, بل بالعكس فأحكام الفقه الإسلامي توجب الأخذ بالأسباب, هذا فضلًا عن ترديد بعض مشايخ الفضائيات من حين لآخر لأفكار ضارة سياسيًّا بشكلٍ مباشر مثل إعلان بعضهم تحريم عدد من أساليب العمل السياسي تحديدًا كالمظاهرات, أو إعلانهم مواقف سلبيَّة من بعض التحركات السياسيَّة الإسلاميَّة, ومن أمثلة ذلك إعلان أحدهم موقفًا رافضًا لمقاومة حماس وسلوك المسلمين المناصرين لها في العالم العربي، مع دفاعه عن موقف الحكام العرب أيَّام حرب إسرائيل على غزة في يناير 2009م.

ومن هنا فالحركة الإسلامية في مصر ربما منذ 1954م وهي تفتقر لامتلاك وسائل وأدوات إعلاميَّة كافية من حيث الكمّ والنوع والفعاليَّة السياسيَّة كي تتكئ عليها في تحقيق أهدافها السياسيَّة أو حتى الدفاع عن نفسها ضدّ الهجمات الشرسة التي تنصب عليها ليل نهار, ورغم أن الكثيرين يتذرَّعون بالعوائق القانونيَّة التي تضعها الحكومة العلمانيَّة القمعيَّة أمام التصريح بمطبوعة أو فضائيَّة سياسيَّة إسلاميَّة إلا أن العائق الحقيقي في رأينا هو عدم وجود إرادة حقيقيَّة لدى المتنفِّذين وأصحاب الأموال من أبناء الحركة الإسلاميَّة في إنشاء وإدارة مطبوعات وفضائيَّات سياسيَّة إسلاميَّة، وهو ما نعتبره بمثابة حياة أو موت سياسي بالنسبة للحركة الإسلاميَّة المعاصرة في العالم بعامة وفي مصر بخاصَّة.

ومن هنا نفهم تجاذبات وشراسة المعركة بين الدعاة ورموز الحكم في كل العالم الإسلامي حول جوهر وفاعليَّة العمل الدعوي والإعلامي الإسلامي, وهو ما تبرزه في صورة مصغرة بشكلٍ أو بآخر صراعات الإخوان المسلمين مع خصومهم في الانتخابات النيابيَّة المصريَّة الراهنة أيًّا كانت نتائجها النهائيَّة وآثارها وعواقبها المختلفة.

عبد المنعم منيب

تم نشر هذا المقال في موقع الاسلام اليوم الاحد 22 ذو الحجة 1431 الموافق 28 نوفمبر 2010


تعليقات