خريطة الصراع السياسي في منظور التحليل إسلاميا

تقسيم خريطة الصراع الى فسطاطين هما فسطاط الكفر و فسطاط الايمان هو تقسيم لا يصلح لاجراء تحليل و تعامل سياسي اسلامي صحيح و لكن الاهم من ذلك أنه تقسيم مخالف لهدي النبي صلى الله عليه و آله و سلم السياسي .. لأن الكفار فيهم المطعم بن عدي بما له من نموذج في التفكير و السلوك السياسي دفع النبي صلى الله عليه و آله و سلم الى أن يطلب حمايته في مكة و دفعه لأن يقول بعد بدر لو كان المطعم حيا و سألني هؤلاء النتنى لدفعتهم له (يقصد أسري قريش في بدر) و الكفار كان فيهم أبو سفيان بن حرب الذي هرب بالقافلة و لم يرد قتالا فأرسل الى أبي جهل أن قد سلمت القافلة فعودوا بالجيش و في الكفار عتبة بن ربيعة بما يمثله من نموذج للتفكير و السلوك لدي نوع من الكفار و هو أمر دفع النبي صلى الله عليه و آله و سلم لأن يقول عنه يوم بدر "ان يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر ، ان يطيعوه يرشدوا" و هو من دعا قريشا في بدر لترك محاربة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و تركه و شأنه مع بقية الجزيرة العربية ، و كان معه في رأيه حكيم بن حزام حينئذ قبل أن يسلم ، و في الكفار أيضا أمثال أبو جهل و أبو لهب و ام جميل ، و ضمن الكفار أيضا أمثال ملاعب الأسنة الذي أراد أن يؤمن رسل النبي صلى الله عليه و آله و سلم ليبلغوا دعوة الاسلام رغم أنه كان وقتها كافرا ، و في فسطاط الكفار من هو مثل النجاشي قبل اسلامه حين قال عنه النبي صلى الله عليه و آله و سلم "ملك لا يظلم عنده أحد" و في فسطاط الكفر مثل كسرى الذي مزق رسالة النبي صلى الله عليه و آله و سلم له فقال صلى الله عليه و آله و سلم عنه حينئذ "مزق الله ملكه" و في فسطاط الكفر من هو مثل أمير اليمن من قبل كسرى الذي أرسل له كسرى ليقبض على النبي صلى الله عليه و آله و سلم فآمن بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم و سلم اليمن الى ولاية الاسلام .. و المحصلة أن معسكر الكفر من الناحية السياسية فيه اختلافات شتى تبدأ من العدل و حماية الضعيف و رفع الظلم (مثل النجاشي و المطعم بن عدي و ملاعب الأسنة و غيرهم) و تمر بمن لا يرفع الظلم لكنه عاقل فيدعو لسياسة كفرية عاقلة تقلل الصدام مع الحق (مثل عتبة بن ربيعة) و منهم من هو قريب من الاسلام لو وجد دعوة مناسبة كوالي كسرى في اليمن و منهم من هو محارب بحمق و حقد وغل مثل أبي لهب و أبي جهل و منهم من هو محارب بروية و تمهل مثل أبو سفيان قبل أن يسلم (دعاهم في بدر للرجوع و في الخندق لما وجد مس الضرر أمر بالرجوع) .. هم معسكر واحد من حيث عقيدة الكفر لكنهم ليسوا سواء من حيث النسق و السلوك السياسي فإذا تعاملت معهم سياسيا وفقا لكونهم واحد في العقيدة فقد أهملت واقعهم السياسي .. و هذا موجود الآن أيضا في الواقع الكفري الراهن

*****
حركة التاريخ و السياسة قائمة على الصراع

الدنيا كلها دار مشقة لأنها دار للابتلاء ففي الحديث "لما خلق الله الجنة و النار قال لجبريل اطلع الي النار فقال و عزتك و جلالك لا يسمع بها أحد الا لم يدخلها و قال له اطلع الى الجنة فقال له و عزتك و جلالك لا يسمع بها أحد الا دخلها فأمر الله فحفت النار بالشهوات و أمر الله فحفت الجنة بالمكاره ثم قال لجبريل اطلع الى النار فقال و عزتك و جلالك أخشى ألا ينجو منها أحد و أمره بالاطلاع الى الجنة فقال أخشى ألا يدخلها أحد" (هذا معنى الحديث و هو حديث صحيح) و من ضمن هذه المشقة و الابتلاء أن سنة الله في حركة التاريخ و الأحداث أنها تقوم على الصراع قال تعالى "و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" .
البعض يسطح الأمور و يعتبر أن الصراع هو بين الحق و الباطل فقط ، و لكن الأمر فيه تفصيل اوسع من هذا، و هذا التفصيل مهم جدا للتحليل السياسي الاسلامي و الممارسة السياسية الاسلامية المنضبطة بالشرع الحنيف و خاصة هدي النبي صلى الله عليه و آله و سلم و خلفائه الراشدين ، لعل أهم ما يساعدنا على فهم هذا التفصيل هو أن نفهم أن الصرع هو بين الاسلام الكامل الصحيح و بين ابليس ، و هنا يأتي السؤال من يمثل الاسلام الكامل الصحيح؟
و للاجابة علي هذا السؤال نجد أن ليس كل المسلمين كاملي الايمان لأن الايمان بحسب عقيدة أهل السنة يزيد و ينقص كما أنه قد يكون انحرافا ما في الفكر أو العقيدة لدى مسلم لكن هذا لا يقدح في أصل إسلامه .. اذن ليس كل معسكر المسلمين ممثلا لطرف الصراع ضد ابليس بشكل كامل و صحيح .
 ثم يأتي السؤال الآخر و هو من يمثل ابليس في الصراع؟
هل لا يوجد أي أحد من الانس يطيع ابليس و ينفذ مخططاته سوى الكفار؟ بالطبع لا فهناك من يتبعه في الكفر و لكن هناك من يتبعه في الشهوات و الشبهات من بين صفوف المسلمين بل و يحارب من أجل نشر الفاحشة و الشهوات و الانحرافات قال تعالى "و يريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما" و قال "ان الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب عظيم في الدنيا و الآخرة" ..
اذن فهناك تنوعات سلوكية و عقيدية داخل الصف الاسلامي نفسه تعطي الفرصة ليتعامل ابليس مع بعضها لتدعيمه في معركته ضد الاسلام الصحيح الكامل و أهله ... و هذه التنويعات سوف نتكلم عنها بقدر من التفصيل في السطور القادمة ان شاء الله تعالى .. و لكن يجب هنا أن ننبه ان حديث النبي صلى الله عليه و آله و سلم في تفسير قوله تعالى "و أن هذا سبيلي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" لا يعارض هذا فسبل الشيطان منها ما هو عقيدي يقدح في أصل الايمان و منها ما هو سلوكي يقدح في كمال الايمان فقط و لا يقدح في أصله و الا لكان المرجئ أو الغارق في الشهوات حتى مماته مستقيما على السبيل الواحد المستقيم و هذا لا يقول به أحد من أهل السنة.

*****

أنماط الصراع داخل مجتمع المؤمنين

في الدولة الاسلامية (و بشكل عام في أي مجتمع اسلامي حتى لو لم يكن داخل دولة اسلامية..لكن الدولة الإسلامية هي الواقع الأمثل لنا كمسلمين) هناك عدة أنساق من الصراع لكن في البداية سنقابل نسقا عاما يشمل الكثيرين أيا كانت درجة ايمانهم و هو الحسد .. و البعض قد يقلل من أثر هذه العملية في الواقع السياسي لكن أحداث التاريخ من أبينا آدم و حتى اليوم تثبت أن الكثير من الصراعات المهمة بكل أنواعها لم يحركها سوى الحسد و لعل الحسد هو أحد محركات الصراع الرئيسية داخل الأمة التي أشار اليها الحديث النبوي "و سألته ألا يجعل بأسهم بينهم شديد فلم يستجب لي".
 أما نسق الصراع الأخر الهام جدا و الذي ينبغي التعامل معه باهتمام شديد لأن عبره يتكون مجد الأمة أو يندثر فهو نسق الصراع بين أهل العدالة من المسلمين و بين أهل الفسق و أهل الظلم من المسلمين ، فالمسلمون اما "عدول" بمفهوم العدالة المعروف في الفقه و في علم الحديث (و هو من لم يرتكب كبيرة و لم يصر على صغيرة) و اما مسلم فاسق (و هو من يصر على الصغيرة و يرتكب الكبائر ربما في مجال الانحراف الشخصي فيما دون حقوق الناس) أو ظالم  (و هو من يجور على حقوق الناس مرتكبا بذلك كبائر تتعلق بالجور على حقوق الآخرين) .
و الصراع دائر بين أهل العدالة و اهل الفسق و الظلم في اطار قوله تعالى "وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا" و قوله تعالى "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" و قوله "الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ" فأهل الشهوات من جهتهم يصارعون ليكون المجتمع الاسلامي كله مثلهم و أهل العدالة يجب عليهم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لأن هذه العملية هي مناط خيرية الأمة على غيرها من الأمم كما انها أحد أبرز أهداف التمكين كما في الآية الأخيرة ، و من هنا فالصراع قائم بين أهل الفسق و الظلم من المسلمين من جهة و بين أهل العدالة من المؤمنين على قضية الاستقامة على تعاليم و شريعة الاسلام "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" .
ففريق الفسق و الظلم يريد انحراف المجتمع الى مسلكهم و أهل الايمان يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر ليستقيم المجتمع على شرع الله .. و هكذا فداخل معسكر أو فسطاط الإيمان عدة صراعات صراع بين أهل العدالة و أهل الفسق و صراع بين أهل العدالة و أهل الظلم بالاضافة لصراع عام قائم على الحسد تتغير خريطته من حين لآخر و لكنه قد يصل الى البغي فيقف في وجهه أهل العدالة تطبيقا لقوله تعالى "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" .
و هناك محور أو نسق آخر من أنساق الصراع و هو متعلق بالصراع بين أهل العدالة و بين أصحاب الشبهات و البدع في الدين و كذلك أصحاب التأويل الخاطئ و ما ينتج عن ذلك كله من آثار في الواقع ، إما مذهب فقهي غير مقبول او مذهب عقيدي كالخوارج بفرقهم و المعتزلة و المرجئة و الشيعة بفرقهم جميعا .. و بذا يتضح ما ذكرناه في بداية هذه السلسة من أن فسطاط الايمان ليس كله واحدا بل داخله أنساق عدة للصراع ينبغي فهمها و التعامل معها وفقا للسياسة الشرعية.

*****

آليات الصراع داخل المجتمع أو الدولة الإسلامية

و لنختم الآن بنظرة سريعة على الفكرة العامة لآليات ادارة الصراع داخل المجتمع الاسلامي مع اهل الفسق و أهل الظلم و أهل البدع و الشبهات (غلو أو ارجاء أو غيرهما) و هذه الفكرة العامة ترتكز على عدة أشياء أبرزها التالي:
-الأصل هو التربية و التقويم و نشر العلم الشرعي الصحيح عبر توفير البيئة الايمانية العامة بشكل سليم بعيدا عن أي دعوة أو اثارة للفسق او الظلم أو البدع أو أي تحبيذ لهم. 
-و هذه البيئة تتشكل من الأسرة و العائلة و المدرسة و الجامعة و المسجد و النادي و أماكن العمل و الشارع و وسائل الاعلام و الثقافة و الترفيه المختلفة.
-تعمل سياسات الدولة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية على مكافأة و رفع العدول و التضييق و خفض اهل الفسق و الظلم و البدع في كافة المجالات (هناك امثلة عديدة لذلك في التاريخ و الفقه الاسلامي و على سبيل المثال و الايضاح نتذكر معا الدعاء الذي دعاه العز بن عبد السلام على المنبر قائلا : "اللهم أبرم لهذه الأمة امر رشد يعز فيه أهل طاعتك و يذل فيه أهل معصيتك و يؤمر فيه بالمعروف و ينهى فيه عن المنكر " و نذكر هنا أيضا أعظم مثال تطبيقي تاريخي و هو ان عمر بن الخطاب رضى الله عنه عندما حدد العطاء أى المرتبات التي قررها للمسلمين فقد ميز الصحابة و ميز من الصحابة أهل بدر و ميز المهاجرين و الأنصار على من بعدهم من المسلمين و قال و الله لا أساوي من قاتل مع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم مع من قاتل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم .. و هذا في الاقتصاد اما في السياسة فقد كان " عمر " يجمع أهل بدر ليشاورهم مقدما لهم على غيرهم و عندما حضرته الوفاة جعل الخلافة محصورة في الستة الذين توفى النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو راض عنهم و هذا ليس بدعة من عمر بل هو امر بدا مستقرا في فقه الصحابة اذ عندما حدثت الفتنة الكبرى بين الامام علي و معاوية و أثناء الجدل قبل و بعد مقتل " علي " كان يكثر القول بارجاع الخلافة الى من بقى من الصحابة ممن توفي النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو راض عنهم .. و الشاهد أنه ليس السبق لمجرد السبق لأن السبق يكمن فيه معنى جوهري و هو العدالة و ارتفاع درجة الايمان بين أهل العدالة).
-النظام العقابي في الدولة الاسلامية قائم على أن الفسق الشخصي الذي لا يتسبب في الاعتداء على حقوق آخرين يندب فيه لأفراد المجتمع الستر على اصحابه ونصحهم في السر لا سيما لو كانوا نادمين و جنحوا للتوبة لكن اذا وصلت جريمة الفسق لمعرفة المسئولين فلا يسعهم سوى تطبيق نظام العقوبات الاسلامي.
-النظام العقابي الاسلامي لا يسمح بالتغاضي عن الظلم الذي يمس حقوق الناس و يجب على افراد الرعية و المسئولين أن يسعوا الى رفع هذا الظلم و لا يسع مسئول بالدولة منع عقوبة الظالم أو التغاضي عن رد الحقوق لأهلها تحت أي مسمى.
-تقوم الدولة و الأفراد بنصح و وعظ أهل الشبهات الفقهية أو العقيدية لكن الدولة يجب عليها بشكل أكبر السعي لازالة شبهاتهم بشكل منتظم و منع انتشارها و منعهم من الدعوة الي البدع العقيدية و نشرها.
-يلاحظ امتناع الامام علي بن أبي طالب عن قتال الخوارج الى أن قتلوا صحابيا و زوجته و امتنعوا عن تقديم القتلة للامام و امتنعوا بالسلاح فقاتلهم حينئذ.
كما أنه من قبل هذا رد على شبهاتهم بنفسه و أرسل اليهم ابن عباس فناظرهم و رجع منهم الآلاف الى الرشد بسبب هذه الردود.

عبد المنعم منيب

تعليقات