قصة حقيقية عن السياسة و الإعلام و الرأي العام الإسلامي

الحدوتة التالية حدثت معي فعلا في المعتقل منذ 16 عاما تقريبا.
بداية فقد تربيت منذ أوائل الثمانينات على أن من أهداف الاعتقال هو تعطيل الشخص عن العمل الإسلامي و بالتالي فالخطوة المضادة لهذا هو استغلال الاعتقال في تحصيل العلوم الشرعية و أي علوم أخرى مفيدة للعمل الإسلامي بجانب الارتقاء الإيماني بالاجتهاد في الطاعات كي نكون قد أحبطنا أهداف الظالمين في تعطيلنا عن العمل لدين الله .. و عندما شعر الظالمون بهذه الفكرة لدينا بدءوا مع المعتقلين سياسة جديدة قائمة على منع أي وصول للكتب و الورق و الأقلام و الصحف و المذياع للمعتقلين عام 1994 و عندما شعروا أننا ركزنا على القرآن حفظا و تلاوة و تفسيرا أضافوا المصاحف إلى قائمة المنع في نهاية نفس العام ، حينها بدأنا طريقة أخرى للاستفادة بالوقت قائمة على استقاء العلم و المعلومات من بعضنا بعضا فكل منا ينقل لزملائه ما لديه من علم أو يعرض ما يتذكره مما قرأه من الكتب، و كنت محتجزا منذ نهايات عام 1993 و حتى 1996 أو 1997 في أماكن خصصت لعدد محدد من قادة الحركات الإسلامية من المعتقلين (و غير مسموح باتصالهم أو اختلاطهم بغيرهم) و لكن تغير الوضع في هذا العام و قرروا أن يوزعونا في الزنازين في العنابر الأخرى مع سائر المعتقلين العاديين من الإسلاميين (و طبعا كانوا منتمين للعديد من الحركات الإسلامية) و حينها فوجئت بأمر كان في هذه اللحظة غريبا بالنسبة لي و هو أن أغلب (و أحيانا كل) المعتقلين (خاصة المنتمين لجماعات معينة) يقضون معظم وقتهم في المزاح و اللغو الذي لا طائل منه و معظم كلامهم و مناقشاتهم و اهتماماتهم يدور حول توافه الأمور و كلها تتم في إطار السطحية و الإشاعات المكذوبة التي يعج بها السجن، وقتها تعجبت جدا من هذا الحال متسائلا (بيني و بين نفسي) كيف يكون هذا حال شباب يجاهدون من أجل إعادة الخلافة الإسلامية و المشكلة ليست فقط فيما يسعون له من هدف ضخم و صعب بل المشكلة الأكبر هي أنهم شباب أي يمثلون مستقبل الحركات الإسلامية التي ينتمون إليها، و ظللت أسأل نفسي كيف و لماذا هم كذلك و ما الحل للارتفاع بمستوى تفكيرهم و تغيير مجال اهتمامهم؟
و بعد هذا بقليل توافق أن طلب مني أحد الأخوة (من القلة المتميزين) أن ألقى عليهم محاضرات بشأن الصراع مع إسرائيل و تاريخ الصراع و المعارك التي دارت معها و نحو ذلك، و لبيت طلبه و ألقيت المحاضرات و انفتح بعده الباب كي أتكلم من حين لآخر في موضوعات متشابهة سياسية و تاريخية و إستراتيجية إما بطلب البعض أو بمناقشة تلقائية و طبعا مما أثري المحاضرات و المناقشات وجود ثلاثة أو أربعة أخوة ذوي مستوى معقول في بعض هذه الموضوعات، و فوجئت بعد هذه المحاضرات و المناقشات أن مستوى اهتمامات و مناقشات أغلبية الشباب قد ارتقت و باتت تركز على جوانب مهمة من السياسة و التاريخ بل و  حتى الشئون الإستراتيجية، و أصبح معتادا أن نرى مناقشات حول الميزان الاستراتيجي مع إسرائيل أو حتى الولايات المتحدة و الخلل فيه و ماهية الحلول المبتكرة اللازمة لسد هذه الفجوة بأقل الإمكانات و عندها أدركت أن التدني السابق في مستوى التفكير و في طبيعة الاهتمام سببه أن لا أحدا وجه هؤلاء أو علمهم شيئا مفيدا يهتمون به أو يفكروا فيه .. و تأكد لي من هذه القصة أن ما نراه اليوم من تفاهة و سطحية تعم واقعنا الحالي (بشكل عام و واقع العمل الإسلامي بشكل خاص) مرده زمن الأقزام الذي نعيشه حيث يسيطر على التوجيه الفكري و الإعلامي ذوى الجهل و الجهالة و التفاهة و السطحية  و أصحاب المناهج و العقائد المشوهة و المشبوهة و المنحرفة ، فمن أين يتعلم الشباب و من يضع قدمهم على أول الطريق الصحيح، و مما زاد من خطورة الأزمة سهولة "أدوات و وسائل الإعلام الجديد" فبعدما كان الرويبضة (ذكرا أو أنثى) يجذب له عشرات أو حتى المئات في مسجد أو في نادي على مقهى و يسطح لهم تفكيرهم صار الرويبضة يصنع له برنامجا على فضائية تغزو كل البيوت أو صفحة على موقع من مواقع التواصل الاجتماعي كالفيس و تويتر فيتبعه مئات الآلاف و يضعوا آلاف اللايكات لكل تفاهة يطلقها, طبعا شهوات النفس تميل إلى الأسهل و هو التفاهة و السطحية و لكن المسلم (أو المسلمة) المخلص يبحث عن الحق فإذا وجد العلم الصحيح العميق تتبعه و نبذ ما غزا رأسه من تفاهات الأفكار التي يعج بها فضاء الإعلام القديم و الجديد حتى لو كانت هذه التفاهات تتزيا بثوب الإسلام و شعاراته أو حتى فرائضه ما دامت خالية من المضمون العلمي الحقيقي وفقا لتقاليد و مناهج و أدوات كل علم.
لكني في النهاية أجدني مضطرا لإكمال القصة التي بدأت بها، حيث قررت وقتها أن أجعل دروس السياسة و التاريخ منتظمة المواعيد فقلت أخذ رأي أحد قادة إحدى المجموعات الإسلامية الموجودة معنا فقال لي لا داعي و سيبك من الدروس دي الناس ستتضايق و مش محتاجين لها، فقررت التوقف لئلا تحدث مشاكل مع هذا القيادي رغم إلحاح أفراد مجموعته مطالبين استئناف الدرس.

عبد المنعم منيب
و إقرأ أيضا:

لماذا أصر على تقييم العمل الاسلامي و قادته و نقدهم ؟؟ و ما هدفي من ذلك ؟
أربعة عوامل تمكن المقاومة في غزة من تحقيق التوازن الاستراتيجي مع العدو
تجربة " أردوغان ".. إسلامية أم علمانية ؟و ما علاقتها بـ"الإخوان"؟ (3)
ثلاث ملاحظات على خلافة " البغدادي " و أداء الدولة الاسلامية في سوريا
لماذا تنتصر المقاومة الفلسطينية في غزة على الاحتلال الصهيوني ؟؟
تجربة " أردوغان ".. إسلامية أم علمانية ؟و ما علاقتها بـ"الإخوان"؟ (2)
تجربة " أردوغان ".. إسلامية أم علمانية ؟و ما علاقتها بـ"الإخوان"؟ (1)

تعليقات