اندلعت الهَبَّة الشعبية التونسية خلال هذا الشهر بشكلٍ صنع ثورةً ممتدَّة مازالت تتفاعل وتَسِير ربَّما نحو هدفها الشعبي المأمول, ولم يقتصر تأثير الثورة التونسية على هذه الآثار الداخلية بل امتدَّ أثرها ليشمل أجزاءً مختلفةً من العالم العربي لنشهد احتجاجاتٍ شعبيةً واسعةً في عدد من الدول كالأردن والجزائر ومصر واليمن في محاولة منها جميعًا لاستلهام نجاح التجربة التونسية, ولكن أحداث الثورة الشعبية المصرية التي بدأت فعالياتها الثلاثاء (25يناير) قد استحوذت على الاهتمام العام بسبب كثافتها العددية بشكلٍ لم تشهده مصر منذ أكثر من ثلاثين عامًا وأيضًا بسبب قوتها وعنف المواجهة الأمنية لها, وكذلك بسبب الأثر العميق الذي خلفته, وقد أدَّى ذلك كله إلى ردود أفعال عديدة في الداخل والخارج, ومن المهم الآن التركيز على قضيتين إحداهما خارجية والأخرى داخلية.
القضية الخارجية تمثَّلت في طبيعة ردّ الفعل الأوروبي والأمريكي على هذه الاحتجاجات؛ إذ اتَّسَم بالسرعة والوضوح النسبِيِّ بعكس ما حدث في الحالة التونسية فدَعَت الولايات المتحدة السلطات المصرية إلى التعامل بشكل سلميٍّ مع الاحتجاجات وقالت: إنَّ واشنطن تأمل أن ترَى إصلاحات في مصر وأماكن أخرى لخلق مزيدٍ من الفرص السياسية والاقتصادية, ولم يقتصر الموقف الأمريكي على هذا بل سرعان ما تتابعت التصريحات مع استمرار المظاهرات في الأيام التالية؛ إذ قال البيت الأبيض: إنه يتابع الوضع في مصر عن كثبٍ، ويؤيِّد حق المصريين في حرية التجمع والتعبير, ثُمّ تتابعت البيانات الأمريكية المتعددة من الرئيس أوباما والمتحدث باسم البيت الأبيض ووزيرة الخارجية والمتحدث باسم الخارجية الأمريكية وصولاً لإرسال مبعوث أمريكي لمصر ولكن أهمَّ تصريح هو تصريح لأوباما قال فيه (الأربعاء 2 فبراير): إنه نصح مبارك بنقل السلطة الآن.
ودخلت كلٌّ من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي على خطّ ردود الأفعال فرددوا تصريحات عديدة متشابهة مع التصريحات الأمريكية لكنها كانت أسرع في انحيازها للمطالبة بالتغيير وتحقيق مطالب الشعب, وقد وصلت لذروتها الأربعاء أيضًا وطالبت- مثلها مثل أوباما- بأنّ يبادر الرئيس لنقل السلطة فورًا والدخول في المرحلة الانتقالية التي تطالب بها قوى المعارضة.
ولا شكَّ أن ردود الأفعال هذه لن تقتصر على التصريحات العلنية فقط بل سوف تترجم لأشكال من الضغط السياسي الأوروبي والأمريكي ستتم ممارسته بدرجات متفاوتة تجاه النظام الحاكم في مصر؛ إذ أشارت مصادر أوروبية في بروكسل أنّ وزراء خارجية الدول الأعضاء في التكتُّل الموحد سيَقُومون بمناقشة للوضع في مصر خلال اجتماعهم يوم الاثنين القادم في بروكسل «مع أنَّ الموضوع لم يُدْرَج على جدول الأعمال، لكن الوزراء سوف يتطرقون إليه في معرض مناقشاتهم» على حدّ قول هذه المصادر.
والسؤال الآن ما هو الأثر المتوقَّع للموقف الأمريكي والأوروبي على النظام الحاكم في مصر؟
في الواقع فإنَّ خبرة التاريخ تقول: إنه من الممكن أن تذهب الضغوط الغربية (الأمريكية والأوروبية) على النظام الحاكم في مصر إلى أبعد مدَى, من حيث إجباره على التحوُّل نحو درجةٍ عاليةٍ من الحياة الديمقراطية ومكافحة الفساد وحلّ مشكلات غالبية الشعب إذا تواصلت وتصاعدت الضغوط الشعبية, بشرط أن تكون هذه الديمقراطية في إطارٍ من رعاية المصالح والأولويات السياسية والإستراتيجية الغربية, ولنزيد الأمر إيضاحًا لابدّ من تذكُّر نموذج ثورة 1919 في مصر فقد أدَّى الضغط الشعبي القوى على الاحتلال الانجليزي إلى صدور دستور 1923 وهو أكثر الدساتير المصرية ليبرالية في تاريخها الحديث والمعاصر, وظلّ الوضع في مصر في أكثر الأحيان يتمتع بقدرٍ كبيرٍ من الحرية والليبرالية مع الأخذ في الاعتبار مصالح وأولويات الإنجليز السياسية والإستراتيجية فرغم الحرية النسبية تَمّ سنّ قانون يحظر الماركسية وتنظيماتها كما تَمّ حصر التيار الإسلامي في إطار مُعيّن أراده الاحتلال، فضلاً عن توفير الدعم المصري للإنجليز في الحرب العالمية الثانية, وفي السنوات الأخيرة تَمّت تجربة مشابهة مع تركيا في ظلّ حزب العدالة فقد ضغطت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على عسكر تركيا كي يسمحوا لحزب العدالة بتغيير الدستور بما يدعم مزيدًا من التوجُّه الليبرالي في نظام الحكم التركي ويقلص من ديكتاتورية العسكر رغم علمانية العسكر وإسلامية حزب العدالة الحاكم, لكن في نفس الوقت فإنَّه كلما اقترب الأمر من تحقيق مكاسب إسلامية فعَّالة فإنّ الغرب نفسه يتدخل لمنع ذلك (لاحظ قانون حظر البغاء), نعم مسموح لحزب العدالة ببعض التحركات والرتوش الإسلامية لكن في الإطار الذي لا يهدِّد المصالح والأولويات السياسية والإستراتيجية الغربية بما في ذلك مصالح إسرائيل, ومن هنا يمكن فهم المدى الذي يمكن أن يصل إليه الضغط الغربي على نظام الحكم في مصر أو في غيرها من بلدان العالم الإسلامي... ديمقراطية أو حرية أو شفافية و مكافحة للفساد... كلُّ هذا قد يدعمه الغرب لاحتواء الغضب الشعبي والابتعاد بأغلبية الشعب عن الانْجِذاب للتيارات الإسلامية الحقيقية لكن بشرط أن لا تؤدِّي هذه الديمقراطية للإخلال بأيِّ من المصالح والأولويات السياسية والإستراتيجية الغربية (وفي قلبها مصالح إسرائيل).
أمَّا القضية الداخلية التي ينبغِي تأمُّلها فهي غياب بعض فصائل الحركة الإسلامية عن المشاركة في فعاليات الغضب بالشارع المصري منذ البداية أو على الأقل ضعف هذه المشاركة من قِبَل بعض التيارات وعزوف تيارات أخرى عن المشاركة فيها بالكلية, طبعًا لكل تيار حساباته الخاصة التي نحترمها ولكن لابدّ أن لا يغيب عن حساباتنا ثلاثة أمور:
الأول- أنَّ الحسابات ينبغي أن تكون دقيقة وعميقة وموضوعية؛ لأننا أمام لحظات تاريخية حاسمة ومن الخطورة بمكان أن يقع فيها أي خطأ في الحسابات؛ لأنَّ كل خطأ الآن سيكون له تكلفةٌ ضخمةٌ ليس علينا الآن فقط بل على الأجيال المقبلة أيضًا.
الثاني- أنَّه مهما كانت الحسابات دقيقة وموضوعية وعميقة فإنَّها ينبغي أن تضع في حسبانِهَا المواقف الاستثنائية والاحتمالات الطارئة, والفرص التي قد تتاح أو تقدم لنا على طبقٍ من ذهب فجأة, ولا يعقل أن يكون لدينا- كحركة إسلامية- آمال عريضة بأن نكوَن منقذي الإنسانية الحديثة من تِيهِ الشهوات والشبهات ومن ظلام الظلم والعدوان ولا يكون لدينا خطط وبرامج وقدرات لمواجهة المواقف الطارئة والحالات الاستثنائية والمفاجئات المختلفة.
الثالث- أنَّ الحركة الإسلامية خسرت كثيرًا في عصرها الحديث بسبب عدم انتهازها للفرص الكثيرة التي سنحت لها, وعلينا الحذر من تكرار هذا الخطأ... خطأ إضاعة الفرص التي عادةً ما يَضنّ بها التاريخ و قلَّمَا تتكرَّر.
عبد المنعم منيب
تم نشر هذا المقال في موقع اسلام نودي في يوم السبت 02 ربيع الأول 1432 الموافق 05 فبراير 2011
تعليقات
إرسال تعليق