منذُ أيام وجَّه الدكتور أيمن الظواهري -الرجل الثاني في شبكة القاعدة- اللَّوْم للحكومة التركيَّة بشأن العديد من القضايا، من أول مشاركتها في حرب الناتو على أفغانستان، وحتى تسييرها أساطيل الحرية لفك الحصار عن غزة, وتزامن هذا اللوم مع فترة حساسة سياسيًّا في الداخل التركي، بعدما أمرتْ محكمة تركية مؤخرًا باعتقال أكثر من مائة من المتَّهَمين في التخطيط لانقلاب عسكري على حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا ذي الجذور الإسلاميَّة, وجاء على رأس هؤلاء المتهمين عددٌ من أكبر وأبرز قادة الجيش السابقين والحاليين, وجاء هذا في إطار القضيَّة المعروفة باسم المطرَقَة الثقيلة التي اتُّهم فيها عدد من أبرز رموز العلمانيين بالجيش ومراكز مدنِيَّة هامة أخرى, ويأتي هذا الإجراء الأخير بعدما أمرت محكمة تركية عليا أخرى منذ نحو شهر بالإفراج عن نفس المتَّهَمين فيما ظهر وكأنه صراع بين قُوى متصارعة داخل الهيئة القضائية بعضها مناوئ لحزب العدالة ومساند للقوى العلمانية وبعضها موالٍ لحزب العدالة، ومناوئ للعلمانيين الذين ظلُّوا قرابة سبعين عامًا منذ أتاتورك وحتى الآن يحتلون أبرز مراكز النفوذ والتأثير في الجيش والشرطة وهيئات التدريس في الجامعات، فضلًا عن مناصب القضاء.
وفي 12 سبتمبر المقبل يجري استفتاء عام في تركيا على الإصلاحات التي يقول أردوغان أن هناك حاجةً إليها لكي يصبح الدستور متماشِيًا مع الديمقراطيات الأوروبية, وتشمل هذه الإصلاحات بشكلٍ أساسي طريقة تشكيل المحكمة الدستوريَّة واللجنة العليا للقضاة والادِّعَاء والطريقة التي تحدّد انتخاب الأعضاء فيها وأسلوب إلغاء حزب ما من الأحزاب السياسية أو تجميده أو وقفه عن العمل السياسي, وتعارض المعارضة -التي هي في الحقيقة علمانية- هذه التعديلات الدستورية بحجَّة أنها من شأنِها أن تحكم سيطرة حزب العدالة والتنمية على الحكم.
أردوغان ذو الخلفيَّة الإسلامية والتاريخ النضالي الإسلامي تحت قيادة أستاذِه أربكان هل هذا فقط ما فعله ويفعلُه منذ وصولِه للحُكْم قبل ثماني سنوات عبر انتخاباتٍ نيابية كانت نتيجتها مفاجئةً في البداية؟
لا يَعنينا هنا ما يُقال عن دورٍ تركي متنامٍ في الشرق الأوسط والمنطقة العربية, أو موقف بدا للبعض بطوليًّا إزاء الطغيان الإسرائيلي والعَجْرَفة الصهيونية، كما لا يعنينا ما يُقال عن تنامي العلاقة التركية مع سوريا أو إيران... الذي يهمُّنا هو التساؤل عما عسى أن يكون قدَّمه أردوغان وحزبه الموصوف بالإسلامِي للقضية الإسلاميَّة، خاصةً في شقها السياسي, فغاية كل حركة إسلاميَّة تسعى للحكم هو تطبيق الشرع الإسلامي في الحُكْم, والسير سياسيًّا واقتصاديًّا بمقتضاه, الكثير من الإسلاميين بكل أطيافهم الفكرية انزعجوا من النمط والشكل غير الإسلامي الذي بدا عليه حزب العدالة والتنمية في الكثير من ممارساتِه وقوانينه وسلوكه التشريعي والدولي, فمن الرضوخ للضغوط الأوروبية بالامتناع عن حظر الزنا إلى تعاونِه من خلال الناتو في الحرب على أفغانستان وغير ذلك الكثير, فهل هذا يعني أن أردوغان وحزب العدالة مُعادٍ للإسلام أو على الأقلّ غير معنيٍّ بالحكم وَفْقَ أحكام الشريعة الإسلامية التي هي جوهر الهدف الإسلامي الأسمى في كل العصور وعبر كل الحركات الإسلامية؟
أم أن حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة أردوغان قد عدل في العقيدة الإسلامية ليجعل إقامة حكم الشريعة وعودة الخلافة الإسلامية الراشِدة على منهاج النبوَّة أمورًا ليست هامة، وبذا رسَّخ ما اعتبره بعض المراقبين (بما فيهم أوروبيون وأمريكان) أنه تيار إسلامي سمُّوه بالعلماني؟
أغلب الإسلاميين العرب من كل التيارات غير راضين عن أداء ولا أفكار حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة أردوغان, لأنه لم يجسِّد الحلم الإسلامي في مجال الحُكم لا في سياسته الداخلية ولا الخارجية, حيث في الداخل الدعارة والزنا مباحان والشريعة غيرُ حاكمةٍ بصفة عامة, وحيث في الخارج علاقاته الوثيقة مع الولايات المتحدة وحلف الناتو والسعي الحثيث للالتحاق بالاتحاد الأوروبي.
أعداء أردوغان وحزب العدالة في داخل تركيا يعتبرون أن الحزب ماكر وله أجندة خفيَّة لتحويل تركيا إلى الحكم الإسلامي عبر خطَط مَاكِرة ومتدرِّجة وغير متعجِّلَة.
ولفهم ما يجري في تركيا على يد العدالة والتنمية ينبغي ألا نقف كثيرًا عند إجابة سؤال: ماذا يفعل أردوغان وحزب العدالة في تركيا؟
لأن الاقْتصار على ذلك سيُدْخِلنا في نفس الحلقة المفرَغة من الجدل الذي عرضنا له في السطور السابقة.
إذنْ فلنركز أكثر على إجابة سؤال آخر هو: ما هي أهم النتائج التي ستسبب فيها أعمال حزب العدالة والتنمية في تركيا في الفترة المقبِلة؟
لنرجعْ مرة أخرى لفهم حقيقة وجوهر الإصلاحات الجديدة للحزب, فجوهر الإصلاحات الجديدة من شأنها التغيير من بنية المحكمة الدستورية بزيادة عدد أعضائها الحاليين وتغيير طريقة تعيين أعضائها بحيث لا تظلُّ المحكمة الدستورية تتفرد بأعضائها الحاليين بالرقابة والهيمنة على قرارات البرلمان أو أي قرارات أخرى ولا تظلّ عقبة أمام أي تعديلات منطقية في الدستور أو القوانين, كما أن الإصلاحات الجديدة تفعل الشيء نفسَه مع المجلس الأعلى للقضاة والمدّعين العامين الذين يشكِّلُون مع المحكمة الدستورية دولة داخل الدولة بعد صعوبة قيام العسكر بانقلابات عسكرية, فالمحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاء أصبحا الأداة الوحيدة لدى العلمانيين لعرقلة خطوات حزب العدالة والتنمية في تغيير القوانين.
ومن أهمّ التعديلات الجديدة محاكمة العسكريين الذين لا يزالون في خدمتهم أمام محاكم عسكرية إذا لم يقتصر الجرم على شئون عسكرية فقط.
أيضًا سيكون الأتراك في 12 سبتمبر بالذات، ذكرى انقلاب 1980 العسكري، أمام فرصة تصفِيَة الحسابات مع قادة الانقلاب، بحيث لا يتجرأ، أو هكذا يفترض، أي جنرال عسكري على القيام بانقلاب عسكري جديد لأن المحاكمة ستنتظرُه، بينما كان القانون السابق يستثني قادة انقلاب 12 سبتمبر من أي محاكمة.
يُضاف إلى ذلك ما فعله حزب العدالة من تخفيف القيود عن الحجاب والشعائر الإسلامية في الجامعات والمصالح الحكوميَّة, ومنع أو تخفيف عمليات الفصل من العمل التي كانت تَطَال المتعاطفين مع العقيدة والشريعة الإسلامية في أجهزة الأمن والقضاء والجامعات.
ويمكنُ أن نلاحظ بسهولة نتائج وأثار ما يفعلُه حزب العدالة والتنمية في تركيا في مجالَيْن:
الأول- المجال الدستوريّ والقانوني المتعلِّق بنظام الحكم, وهنا نجد أن هذه الحزمة من الإصْلاحات التي سيتمُّ الاستفتاء عليها وغيرها من الإصْلاحات الدستوريَّة التي رسَّخَها حزب العدالة والتنمية من قبلُ أو يسعى لترسيخها مستقبلًا بزعامة أردوغان ستؤدي جميعها إلى تقلُّص النفوذ العلماني في الجيش وأجهزة الأمن وأجهزة القضاء، كما أنها ستحمي القُوى الإسلامية التركية السلميَّة، وتفسحُ لها المجال في هذه الأجهزة وكذلك في الجامعات والبرلمان, وستعملُ على منع تكرار حظر الأحزاب الإسلامية عبر القضاء، فضلًا عن الانقلاب عليها عبْر الجيش.
الثاني- المجال المجتمعي (إن جاز التعبير), حيث ستفسح إجراءات تخفيف القيود عن الحجاب والتديُّن في الجامعات والمصالح الحكومية لمزيدٍ من انتشار الدعوة الإسلامية والعمل الإسلامي الداعي لأسْلَمة المجتمع.
وتحقق هاتان النتيجتان أمرًا مهمًّا لا يُقلِّل من أهميتهما أنهما أقلّ من الطموح الإسلامي الواجب شرعًا، وهو الحُكْم بالشَّرْع الحنيف كاملًا دون نقْص, لأننا الآن لا نحدِّد ما نريد، لكننا نصف واقعًا جديدًا ستئولُ إليه أسوأُ دولة علمانية في العالم الإسلامي، بل أول من أدخل العلمانية للحُكْم في العالم الإسلامي وروَّجَ له بالتطبيق, كما أننا لا نناقش الآن ما كان ينبغي أن يفعَلَه أردوغان والعدالة أو ما كان يمكنُهُما فعلُه, إنما نحاول أن نفهمَ حجم ما تَمَّ فعلًا.
ولا ننسى في هذا الصَّدَد قاعدة فقهية هامة، وهي أن الضرورات تُبيح المحظورات, وتركيا كان يُسيطر عليها العلمانيون بالحديد والنار, وحتى حزب العدالة نفسه سَعَوْا لحظره قضائيًّا ففشلوا, كما سعوا للقيام بانقلاب عسكري عليه ففشلوا حتى الآن, وهذه قصة أخرى جديرة بالدراسة لنعلم كيف تغلب العدالة والتنمية التركي على الجيش والقضاء، ولاعب مع ذلك الولايات المتحدة وإسرائيل والاتحاد الأوروبي.
عبد المنعم منيب
تعليقات
إرسال تعليق